الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب أكل المحرم لحم صيد الحلال

قال الله تعالى وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما فروي عن علي وابن عباس ( أنهما كرها للمحرم أكل صيد اصطاده حلال ) إلا أن إسناد حديث علي ليس بقوي ، يرويه علي بن زيد ، وبعضهم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقفه بعضهم .

وروي عن عثمان وطلحة بن عبيد الله وأبي قتادة وجابر وغيرهم إباحته . وروى عبد الله بن أبي قتادة وعطاء بن يسار عن أبي قتادة قال : أصبت حمار وحش ، فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أصبت حمار وحش وعندي منه فضلة ، فقال لقوم : كلوا وهم محرمون .

وروى أبو الزبير عن جابر قال عقر أبو قتادة حمار وحش ونحن محرمون وهو حلال ، فأكلنا منه ومعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وروى المطلب بن عبد الله بن حنطب عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحم صيد البر حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصطاد لكم .

وقد روي في إباحته أخبار أخر غير ذلك كرهت الإطالة بذكرها لاتفاق فقهاء الأمصار عليه . واحتج من حظره بقوله : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما وعمومه يتناول الاصطياد والمصيد نفسه لوقوع الاسم عليهما ، ومن أباحه ذهب إلى قوله : وحرم عليكم صيد البر إذ كان يتناول الاصطياد وتحريم المصيد نفسه ، فإن هذا الحيوان إنما يسمى صيدا ما دام حيا وأما اللحم [ ص: 148 ] فغير مسمى بهذا الاسم بعد الذبح ، فإن سمي بذلك فإنما يسمى به على أنه كان صيدا ، فأما اسم الصيد فليس يجوز أن يقع على اللحم حقيقة . ويدل على أن لفظ الآية لم ينتظم اللحم أنه غير محظور عليه التصرف في اللحم بالإتلاف والشرى والبيع وسائر وجوه التصرف سوى الأكل عند القائلين بتحريم أكله ، ولو كان عموم الآية قد اشتمل عليه لما جاز له التصرف فيه بغير الأكل كهو إذا كان حيا ولو كان على متلفه إذا كان محرما ضمانه كما يلزم ضمان إتلاف الصيد الحي ؛ لأن قوله تعالى : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما يتناول تحريم سائر أفعالنا في الصيد في حال الإحرام .

فإن قال قائل بيض الصيد محرم على المحرم وإن لم يكن ممتنعا ولا مسمى صيدا ، فكذلك لحمه . قيل له : ليس كذلك لأن المحرم غير منهي عن إتلاف لحم الصيد ولو أتلفه لم يضمنه ، وهو منهي عن إتلاف البيض والفرخ ويلزمه ضمانه . وأيضا فإن البيض والفرخ قد يصيران صيدا ممتنعا فحكم لهما بحكم الصيد ، ولحم الصيد لا يصير صيدا بحال فكان بمنزلة لحوم سائر الحيوانات ؛ إذ ليس بصيد في الحال ولا يجيء منه صيد . وأيضا فإنا لم نحرم الفرخ والبيض بعموم الآية وإنما حرمناهما بالاتفاق . وقد اختلف في حديث الصعب بن جثامة أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالأبواء أو غيرها لحم حمار وحش وهو محرم فرده ، فرأى في وجهه الكراهة ، فقال : ليس بنا رد عليك ولكنا حرم ، وخالفه مالك ، فرواه عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة ، أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالأبواء أو بودان حمار وحش ، فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم . قال ابن إدريس : فقيل لمالك : إن سفيان يقول رجل حمار وحش ؟ فقال : ذاك غلام ذاك غلام . ورواه ابن جريج عن الزهري بإسناد كرواية مالك ، وقال فيه : إنه أهدى له حمار وحش . وروى الأعمش عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، أن مصعب بن جثامة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حمار وحش وهو محرم ، فرده وقال : لولا أنا حرم لقبلناه منك ، فهذا يدل على وهاء حديث سفيان ، وأن الصحيح ما رواه مالك لاتفاق هؤلاء الرواة عليه . وقد روي فيه وجه آخر

، وهو ما روى أبو معاومة عن ابن جريج عن جابر بن زيد أبي الشعثاء عن أبيه قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن محرم أتي بلحم صيد يأكل منه ، فقال : احسبوا له قال أبو معاوية : يعني إن كان صيد قبل أن يحرم فيأكل وإلا فلا . وهذا يحتمل أن يريد به [ ص: 149 ] إذا صيد من أجله أو أمر به أو أعانه أو دل عليه ونحو ذلك من الأسباب المحظورة .

التالي السابق


الخدمات العلمية