الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه ، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم ف الحمد لله توحيد رب العالمين توحيد الرحمن الرحيم توحيد مالك يوم الدين توحيد إياك نعبد توحيد وإياك نستعين توحيد اهدنا الصراط المستقيم توحيد متضمن لسؤال الهداية إلى طريق أهل التوحيد ، الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين الذين فارقوا التوحيد ، ولذلك شهد الله لنفسه بهذا التوحيد ، وشهد له به ملائكته ، وأنبياؤه ورسله ، قال : شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام .

فتضمنت هذه الآية الكريمة إثبات حقيقة التوحيد ، والرد على جميع هذه الطوائف ، والشهادة ببطلان أقوالهم ومذاهبهم ، وهذا إنما يتبين بعد فهم الآية ببيان ما تضمنته من المعارف الإلهية ، والحقائق الإيمانية .

فتضمنت هذه الآية : أجل شهادة ، وأعظمها ، وأعدلها ، وأصدقها ، من أجل شاهد ، بأجل مشهود به ، وعبارات السلف في " شهد " تدور على الحكم والقضاء ، والإعلام والبيان ، والإخبار ، قال مجاهد : حكم ، وقضى ، وقال الزجاج : بين ، وقالت طائفة : أعلم وأخبر ، وهذه الأقوال كلها حق لا تنافي بينها فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره ، وقوله ، وتتضمن إعلامه ، وإخباره وبيانه ، فلها أربع مراتب ، فأول مراتبها : علم ، ومعرفة ، واعتقاد لصحة المشهود به ، وثبوته ، وثانيها : تكلمه بذلك ، ونطقه به ، وإن لم يعلم به غيره ، بل يتكلم به مع نفسه ويذكرها ، وينطق بها أو يكتبها ، وثالثها : أن يعلم غيره بما شهد به ، ويخبره به ، ويبينه له ، ورابعها : أن يلزمه بمضمونها ويأمره به .

[ ص: 419 ] فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية ، والقيام بالقسط : تضمنت هذه المراتب الأربعة : علم الله سبحانه بذلك ، وتكلمه به ، وإعلامه ، وإخباره لخلقه به ، وأمرهم وإلزامهم به .

أما مرتبة العلم : فإن الشهادة بالحق تتضمنها ضرورة ، وإلا كان الشاهد شاهدا بما لا علم له به ، قال الله تعالى : إلا من شهد بالحق وهم يعلمون وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : على مثلها فاشهد وأشار إلى الشمس .

وأما مرتبة التكلم والخبر : فمن تكلم بشيء وأخبر به فقد شهد به ، وإن لم يتلفظ بالشهادة ، قال تعالى : قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم وقال تعالى : وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون .

فجعل ذلك منهم شهادة ، وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ، ولم يؤدوها عند غيرهم ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : عدلت شهادة الزور الإشراك بالله وشهادة الزور هي قول الزور ، كما قال تعالى : واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به وعند نزول هذه الآية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : عدلت شهادة الزور الإشراك بالله فسمى قول الزور شهادة ، وسمى الله تعالى إقرار العبد على نفسه شهادة ، قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم [ ص: 420 ] فشهادة المرء على نفسه : هي إقراره على نفسه ، وفي الحديث الصحيح في قصة ماعز الأسلمي : فلما شهد على نفسه أربع مرات رجمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال تعالى : قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين .

وهذا - وأضعافه - يدل على أن الشاهد عند الحاكم وغيره : لا يشترط في قبول شهادته أن يتلفظ بلفظ الشهادة ، كما هو مذهب مالك ، وأهل المدينة ، وظاهر كلام أحمد ، ولا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين اشتراط ذلك ، وقد قال ابن عباس شهد عندي رجال مرضيون - وأرضاهم عندي عمر - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد الصبح ، حتى تطلع الشمس ، وبعد العصر حتى تغرب الشمس ، ومعلوم أنهم لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ، والعشرة الذين شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة ، لم يتلفظ في شهادته لهم بلفظ الشهادة ، بل قال : أبو بكر في الجنة ، وعمر في الجنة ، وعثمان في الجنة ، وعلي في الجنة الحديث .

[ ص: 421 ] وأجمع المسلمون على أن الكافر إذا قال : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله فقد دخل في الإسلام ، وشهد شهادة الحق ، ولم يتوقف إسلامه على لفظ الشهادة وأنه قد دخل في قوله : حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وفي لفظ آخر : حتى يقولوا لا إله إلا الله فدل على أن مجرد قولهم لا إله إلا الله شهادة منهم ، وهذا أكثر من أن تذكر شواهده من الكتاب والسنة ، فليس مع من اشترط لفظ الشهادة ، دليل يعتمد عليه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية