الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وقوله تعالى : قائما بالقسط " القسط " : هو العدل ، فشهد الله سبحانه : أنه قائم بالعدل في توحيده ، وبالوحدانية في عدله ، والتوحيد والعدل هما جماع صفات الكمال ، فإن التوحيد يتضمن تفرده سبحانه بالكمال والجلال والمجد والتعظيم الذي لا ينبغي لأحد سواه ، والعدل يتضمن وقوع أفعاله كلها على السداد والصواب وموافقة الحكمة .

فهذا توحيد الرسل وعدلهم : إثبات الصفات ، والأمر بعبادة الله وحده لا شريك [ ص: 424 ] له ، وإثبات القدر والحكم ، والغايات المطلوبة المحمودة بفعله وأمره ، لا توحيد الجهمية والمعتزلة والقدرية ، الذي هو إنكار الصفات وحقائق الأسماء الحسنى ، وعدلهم ، الذي هو : التكذيب بالقدر ، أو نفي الحكم والغايات والعواقب الحميدة التي يفعل الله لأجلها ويأمر ، وقيامه سبحانه بالقسط في شهادته يتضمن أمورا .

أحدها : أنه قائم بالقسط في هذه الشهادة التي هي أعدل شهادة على الإطلاق ، وإنكارها وجحودها أعظم الظلم على الإطلاق ، فلا أعدل من التوحيد ولا أظلم من الشرك ، فهو سبحانه قائم بالعدل في هذه الشهادة قولا وفعلا ، حيث شهد بها ، وأخبر وأعلم عباده ، وبين لهم تحقيقها وصحتها ، وألزمهم بمقتضاها ، وحكم به ، وجعل الثواب والعقاب عليها ، وجعل الأمر والنهي من حقوقها وواجباتها ، فالدين كله من حقوقها ، والثواب كله عليها ، والعقاب كله على تركها .

وهذا هو العدل الذي قام به الرب تعالى في هذه الشهادة ، فأوامره كلها تكميل لها ، وأمر بأداء حقوقها ، ونواهيه كلها صيانة لها عما يهضمها ويضادها ، وثوابه كله عليها ، وعقابه كله على تركها ، وترك حقوقها ، وخلقه السماوات والأرض وما بينهما كان بها ولأجلها ، وهي الحق الذي خلقت به ، وضدها هو الباطل والعبث الذي نزه نفسه عنه ، وأخبر : أنه لم يخلق به السماوات والأرض ، قال تعالى - ردا على المشركين المنكرين لهذه الشهادة - وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ، وقال تعالى : حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون وقال : هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق ، وقال أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون وقال : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق وهذا كثير في القرآن ، والحق الذي خلقت به [ ص: 425 ] السماوات والأرض ولأجله : هو التوحيد ، وحقوقه من الأمر والنهي ، والثواب والعقاب ، فالشرع والقدر ، والخلق والأمر ، والثواب والعقاب قائم بالعدل ، والتوحيد صادر عنهما ، وهذا هو الصراط المستقيم الذي عليه الرب سبحانه وتعالى ، قال تعالى - حكاية عن نبيه هود - إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فهو سبحانه على صراط مستقيم في قوله وفعله ، فهو يقول الحق ، ويفعل العدل وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .

فالصراط المستقيم - الذي عليه ربنا تبارك وتعالى - : هو مقتضى التوحيد والعدل ، قال تعالى : وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم فهذا مثل ضربه الله لنفسه وللصنم ، فهو سبحانه الذي يأمر بالعدل ، وهو على صراط مستقيم ، والصنم مثل العبد الذي هو كل على مولاه ، أينما يوجهه لا يأت بخير .

والمقصود : أن قوله تعالى : قائما بالقسط هو كقوله : إن ربي على صراط مستقيم وقوله قائما بالقسط نصب على الحال ، وفيه وجهان ، أحدهما : أنه حال من الفاعل في " شهد الله " والعامل فيها الفعل ، والمعنى على هذا : شهد الله حال قيامه بالقسط : أنه لا إله إلا هو ، والثاني : أنه حال من قوله " هو " والعامل فيها معنى النفي ، أي لا إله إلا هو ، حال كونه قائما بالقسط ، وبين التقديرين فرق ظاهر ، فإن التقدير الأول : يتضمن أن المعنى : " شهد الله " متكلما بالعدل ، مخبرا به ، آمرا به ، فاعلا له ، مجازيا به - أنه لا إله إلا هو ، فإن العدل يكون في القول والفعل ، والمقسط هو العادل في قوله وفعله ، فشهد الله قائما بالعدل - قولا وفعلا - أنه لا إله إلا هو ، وفي ذلك تحقيق لكون هذه الشهادة شهادة عدل وقسط ، وهي أعدل شهادة ، كما أن المشهود به أعدل شيء ، وأصحه وأحقه ، وذكر ابن السائب وغيره في سبب نزول الآية ما يشهد بذلك ، وهو أن حبرين من أحبار الشام قدما على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه : ما أشبه هذه المدينة بمدينة النبي الذي يخرج في آخر [ ص: 426 ] الزمان ، فلما دخلا على النبي - صلى الله عليه وسلم - قالا له : أنت محمد ؟ قال : نعم ، وأحمد ؟ قال : نعم ، قالا : نسألك عن شهادة ، فإن أخبرتنا بها آمنا بك ، قال : سلاني ، قالا : أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله فنزلت : شهد الله أنه لا إله إلا هو - الآية وإذا كان القيام بالقسط يكون في القول والفعل كان المعنى : أنه كان سبحانه يشهد وهو قائم بالعدل عالم به ، لا بالظلم ، فإن هذه الشهادة تضمنت قولا وعملا ، فإنها تضمنت : أنه هو الذي يستحق العبادة وحده دون غيره ، وأن الذين عبدوه وحده : هم المفلحون السعداء ، وأن الذين أشركوا به غيره هم الضالون الأشقياء ، فإذا شهد قائما بالعدل - المتضمن جزاء المخلصين بالجنة ، وجزاء المشركين بالنار - : كان هذا من تمام موجب الشهادة وتحقيقها ، وكان قوله قائما بالقسط تنبيها على جزاء الشاهد بها والجاحد لها ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية