الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وإذا سمعوا ما أنـزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق

                                                          الرسول هو محمد -صلى الله عليه وسلم-، ما أنزل إليه هو القرآن، وأنهم لإيمانهم بالحق، وإخلاص قلوبهم، واطمئنان نفوسهم إلى الحق وقد طلبوه بمجرد أن سمعوا القرآن فتحت نفوسهم له وكأنهم كانوا يطلبونه، وأولئك طائفة من نصارى الشرق منهم من كان يؤمن بأن عيسى رسول الله وأن الإنجيل بشر بمحمد -صلى الله عليه وسلم- فلما سمعوا القرآن وسمعوا محمدا، وعندهم صفاته فاضت الدموع من عيونهم فرحا به؛ إذ قد استشرفوا له فوجدوه فكان بردا وسلاما، وقد يكون مع المشارقة من النصارى طائفة من المثلثين وهو الظاهر، كانوا يحسون أنهم في ضلال، وظلام متكاثف من الأوهام، فلما رأوا النور تمشوا إليه.

                                                          ومعنى قوله: ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق أن الدمع ينزل من عيونهم فائضا عما تمتلئ به بسبب الحق الذي عرفوه، ومقتضى الكلام أنهم كانوا في حيرة حتى وجدوه، وأثلجت نفوسهم به، وقد قال الزمخشري في [ ص: 2328 ] توجيه الكلام من الناحية البلاغية: "معناه: تمتلئ عيونهم من الدمع حتى تفيض؛ لأن الفيض أن يمتلئ الإناء أو غيره، حتى يطلع ما فيه من جوانبه فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء، وهو من إقامة المسبب مقام السبب، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء، فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها؛ أي: تسيل من الدمع من أجل البكاء". هذا كلام الزمخشري في التحرير البلاغي لمعنى تفيض أعينهم، وعندي أن الكلام مبالغة في تأثرهم بدعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- واستقامة قلوبهم وعقولهم نحو الحق، وسرورهم به، ومن السرور ما يكون مظهره انبثاق الدموع من العين.

                                                          وقد أكد الكلام بأنه لم يعبر عنه بالإخبار، بل عبر عنه بالرؤية المبصرة التي هي أقوى أسباب العلم الحسي، وصور حالهم في التعبير بالمضارع، وقوله تعالى: مما عرفوا من الحق

                                                          معناه أن سبب البكاء هو ما عرفوه من الحق، وهذا يدل على أمرين: أولهما: أنه تحقق لديهم ما وجدوه من أوصاف النبي -صلى الله عليه وسلم-. ثانيهما: أنهم كانوا لنفاذ بصائرهم، وعظم مداركهم يحسون بأنهم كانوا في ضلال، فعرفوا الطريق، وكانوا في ظلام فاستناروا وكانوا في حيرة فاطمأنوا.

                                                          وإن هذا ينطبق على كل نصراني طالب للحق، لم يطمس الله على بصيرته.

                                                          وبعد أن بين سبحانه حالهم المرئية ذكر قولهم بعد اهتدائهم فقال تعالت كلماته:

                                                          يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين حكى الله سبحانه وتعالى قولهم وقد اتجهوا فيه إلى الله تعالى معترفين بربوبيته وحده، وأنه على كل شيء قدير، ومقرين بالإيمان الصادق المنبعث من قلوبهم، وطلبوا من الله تعالى أن يكتبهم من الذين شهدوا بالحق، وشهدوا برسالة النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما قال تعالى: [ ص: 2329 ] وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا

                                                          وكما قال تعالى. وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير

                                                          وهؤلاء الذين آمنوا لا يجدون غرابة في أن يؤمنوا إنما الغرابة في ألا يؤمنوا، ولذلك حكى الله عنهم قولهم:

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية