الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
( قاعدة ) فعل المطاوعة هو الواقع مسببا عن سبب اقتضاه ، نحو : كسرته فانكسر ، قال ابن مالك في شرح الخلاصة : هو الدال على قبول مفعول لأثر الفاعل ، ومعنى ذلك أن الفعل المطاوع بكسر الواو يدل على أن المفعول لقولك : كسرت الشيء ، يدل على مفعول معالجتك في إيصال الفعل إلى المفعول ، فإذا قلت : فانكسر ، علم أنه قبل الفعل ، وإذا قلت : لم ينكسر علم أنه لم يقبله ، وأما المطاوع بفتح الواو ، فيدل على معالجة الفاعل في إيصال فعله إلى المفعول ، ولا يدل على أن المفعول قبل الفعل أو لم يقبله .

وذكر الزمخشري وغيره أن المطاوع والمطاوع ، لا بد وأن يشتركا في أصل المعنى ، وأن الفرق بينهما إنما هو من جهة التأثر والتأثير ، كالكسر والانكسار ، إذ لا معنى للمطاوعة إلا حصول فعل عن فعل ، فالثاني مطاوع ، لأنه طاوع الأول ، والأول مطاوع ، لأنه طاوعه الثاني ، فيكون المطاوع لازما للمطاوع ، ومرتبا عليه .

[ ص: 124 ] وقد استشكل هذا بقوله تعالى : ( وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ) ( فصلت : 17 ) فأثبت الهدى بدون الاهتداء .

وقوله : أمرته فلم يأتمر . فأثبت الأمر بدون الائتمار ، وأيضا فاشتراط الموافقة في أصل المعنى منقوض بقوله : أمرته فأتمر ، أي امتثل ، فإن الامتثال خلاف الطلب .

وأجيب بأنه ليس المراد بـ ( فهديناهم فاستحبوا العمى ) الهدي الحقيقي ، بل أوصلنا إليهم أسباب الهداية من بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا يلزم وجود الاهتداء ، وأما الأمر فيقتضيه لغة ألا يثبت إلا بالامتثال والائتمار .

وقال المطرزي في المغرب : الائتمار من الأضداد ، وعليه قول شيخنا في الأساس ، يقال : أمرته فائتمر ، وأبى أن يأتمر ، أي أمرته فاستبد برأيه ولم يمتثل ، [ ص: 125 ] والمراد بالمؤتمر الممتثل ، ويقال : علمته فلم يتعلم ، لأن التعليم فعل صالح لأن يترتب عليه حصول العلم لإيجاده . كذا قاله الإمام فخر الدين ، ومنعه بعضهم .

وقال الشيخ علاء الدين الباجي : لو لم يصح : علمته فما تعلم ، لما صح : علمته فعلم ، لأنه إذا كان التعليم يقتضي إيجاد العلم ، وهو علة فيه ، فمعلوله وهو التعلم يوجد معه ، بناء على أن العلة مع المعلول ، والفاء في قولنا : فتعلم ، تقتضي تعقب العلم ، وإن قلنا : المعلول يتأخر ، فلا فائدة في ( فتعلم ) لأن التعلم قد فهم من " علمته " ، فوضح أنه لو صح علمته فما تعلم ، لكان إما ألا يصح : علمته فتعلم ، بناء على أن العلة مع المعلول ، أو لا يكون في قولنا : " فتعلم " فائدة بتأخر المعلول .

فإن قيل : قد منعوا " كسرته " فما انكسر ، فما وجه صحة قولهم : علمته فما تعلم ؟ قيل : فرق بعضهم بينهما بأن العلم في القلب من الله يتوقف على أمر من المعلم ومن المتعلم ، وكان علمه موضوعا للجزاء الذي من المعلم فقط ، لعدم إمكان فعل من المخلوق يحصل به العلم ، ولا بد بخلاف الكسر ، فإن آثره لا واسطة بينه وبين الانكسار .

واعلم أن الأصل في الفعل المطاوعة أن يعطف عليه بالفاء ، تقول : دعوته فأجاب وأعطيته فأخذ ، ولا تقولها بالواو ، لأن المراد إفادة السببية ، وهو لا يكون في الغالب إلا بالفاء كقوله : ( من يهد الله فهو المهتدي ) ( الأعراف : 178 ) .

ويجوز عطفه بالواو كقوله : ( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه ) ( الكهف : 28 ) . وكقوله : ( فاستجبنا له ونجيناه ) ( الأنبياء : 88 ) .

[ ص: 126 ] وفي موضع آخر : ( فاستجبنا له فنجيناه ) ( الأنبياء : 76 ) .

وزعم ابن جني في كتاب " الخصائص " أنه لا يجوز فعل المطاوعة إلا بالفاء . وأجاب عن قوله تعالى : ( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ) ( الكهف : 28 ) بأن " أغفل " في الآية بمعنى وجدناه غافلا ، لا جعلناه يغفل ، وإلا لقيل : فاتبع هواه بالفاء ، لأنه يكون مطاوعا . وفي كلامه نظر ، لأنا نقول : ليس اتباع الهوى مطاوعا لـ " أغفلنا " ، بل المطاوع لـ " أغفلنا " غفل .

فإن قيل : إنه من لازم الغفلة اتباع الهوى ، والمسبب عن السبب سبب . قيل : لا نسلم أن اتباع الهوى مسبب عن الغفلة ، بل قد يغفل عن الذكر ، ولا يتبع الهوى ، ويكون المانع له منه غفلة أخرى عنه ، كما حصلت له غفلة عن الذكر ، أو ترد به ، أو خوف الناس ، علمنا أنه مسبب عنها ، إلا أن كلامنا في المسبب المطاوع ، لا في المسبب مطلقا وتسبب اتباع الهوى عن الغفلة ليس عن المطاوعة .

واعلم أن الحامل لأبي الفتح على هذا الكلام اعتقاده الاعتزالي أن معصية العبد لا تنسب إلى الله تعالى ، وأنها مسببة له ، فلهذا جعل " أفعل " هنا بمعنى " وجد " ، لا بمعنى التعدية خاصة . وقد بينا ضعف كلامه ، وأن المطاوع لا يجب عطفه بالفاء .

وقال الزمخشري في قوله تعالى : ( ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله ) ( النمل : 15 ) هذا موضع الفاء كما يقال : أعطيته فشكر ، ومنعته فصبر ، وإنما عطف بالواو للإشعار بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم ، فأضمر ذلك ثم عطف عليه بالتحميد ، كأنه قال : فعملا به وعلماه ، وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة ، وقالا الحمد لله .

[ ص: 127 ] وقال السكاكي : يحتمل عندي أنه تعالى أخبر عما صنع بهما ، وعما قالا ، كأنه قال : نحن فعلنا إيتاء العلم ، وهما فعلا الحمد ، من غير بيان ترتبه عليه اعتمادا على فهم السامع ، كقولك : " قم يدعوك " بدل " قم فإنه يدعوك " .

وأما قوله تعالى : ( واتقوا الله ويعلمكم الله ) فظن بعض الناس أن التقوى سبب التعليم ، والمحققون على منع ذلك ، لأنه لم يربط الفعل الثاني بالأول ربط الجزاء بالشرط ، فلم يقل : " واتقوا الله ويعلمكم " . ولا قال : " فيعلمكم الله " . وإنما أتى بواو العطف ، وليس فيه ما يقتضي أن الأول سبب للثاني ، وإنما غايته الاقتران والتلازم ، كما يقال : زرني وأزورك ، وسلم علينا ونسلم عليك ، ونحوه ، مما يقتضي اقتران الفعلين والتعارض من الطرفين ، كما لو قال عبد لسيده : أعتقني ولك علي ألف ، أو قالت المرأة لزوجها : طلقني ولك علي ألف ، فإن ذلك بمنزلة قولها بألف أو على ألف . وحينئذ فيكون متى علم الله العلم النافع اقترن به التقوى بحسب ذلك .

ونظير الآية قوله تعالى : ( فاعبده وتوكل عليه ) ( هود : 123 ) . وقوله عقيب ذكر الغيبة ( واتقوا الله إن الله تواب رحيم ) ( الحجرات : 12 ) ووجه هذا الختام التنبيه على التوبة من الاغتياب ، وهو من الظلم . وههنا بحث ، وهو أن الأئمة اختلفوا في أن العلم هل يستدعي مطاوعة أم لا ؟ على قولين :

- ( أحدهما ) : نعم بدليل قوله تعالى : ( من يهد الله فهو المهتدي ) ( الأعراف : 178 ) فأخبر عن كل من هداه الله بأنه يهتدي ، وأما قوله : ( وأما ثمود فهديناهم ) ( فصلت : 17 ) فليس منه لأن المراد بالهداية فيه الدعوة بدليل : ( فاستحبوا العمى على الهدى ) ( فصلت : 17 ) .

- ( والثاني ) لا يدل على المطاوعة بدليل قوله : ( وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ) [ ص: 128 ] ( الإسراء : 59 ) وقوله : ( ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ) ( الإسراء : 60 ) لأن التخويف حصل ، ولم يحصل للكفار خوف نافع يصرفهم إلى الإيمان ، فإنه المطاوع للتخويف المراد بالآية الكريمة ، وعلى الأول تكون الفاء للتعقيب في الزمان ، ويكون " أخرجته فما خرج " حقيقة

التالي السابق


الخدمات العلمية