الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 498 ] السادس : المطالبة : وهي طلب دليل علية الوصف من المستدل ، ويتضمن تسليم الحكم ، ووجود الوصف في الأصل والفرع ، وهو ثالث المنوع المتقدمة .

                السابع : النقض : وهو إبداء العلة بدون الحكم ، وفي بطلان العلة به خلاف ، ويجب احتراز المستدل في دليله عن صورة النقض على الأصح ، ودفعه إما بمنع وجود العلة أو الحكم في صورته ، ويكفي المستدل قوله : لا أعرف الرواية فيها ، إذ دليله صحيح ، فلا يبطل بمشكوك فيه ، وليس للمعترض أن يدل على ثبوت ذلك في صورة النقض ، لأنه انتقال وغصب ، أو ببيان مانع ، أو انتفاء شرط تخلف لأجله الحكم في صورة النقض ، ويسمع من المعترض نقض أصل خصمه ، فيلزمه العذر عنه ، لا أصل نفسه ، نحو : هذا الوصف لا يطرد على أصلي ، فكيف يلزمني ؟ إذ دليل المستدل المقتضي للحكم حجة عليه في صورة النقض كمحل النزاع ، أو ببيان ورود النقض المذكور على المذهبين كالعرايا على المذاهب ، وقول المعترض : دليل علية وصفك موجود في صورة النقض ، غير مسموع ، إذ هو نقض لدليل العلة ، لا لنفس العلة ، فهو انتقال ، ويكفي المستدل في رده أدنى دليل يليق بأصله .

                التالي السابق


                السؤال " السادس " : سؤال " المطالبة " وهي طلب دليل علية الوصف من المستدل ، أي أن يطلب المعترض من المستدل الدليل على أن الوصف الذي جعله جامعا بين الأصل والفرع علة ، كقوله فيما إذا قال : مسكر ، فكان حراما كالخمر ، أو مكيل ، فحرم فيه التفاضل كالبر : لم قلت : إن الإسكار علة [ ص: 499 ] التحريم ، وإن الكيل علة الربا ؟ ولم قلت : إن تبديل الدين علة القتل فيما إذا قال : إنسان بدل دينه فقتل كالرجل ؟

                قوله : " ويتضمن تسليم الحكم ، ووجود الوصف في الأصل والفرع " . أي : سؤال المطالبة يتضمن تسليم هذه الأمور للمستدل .

                أما تضمنه تسليم الحكم ، كتسليم تحريم الخمر والربا ، ووجوب القتل في الصورة المذكورة ؛ فلأنا قد بينا فيما سبق أن العلة فرع الحكم في الأصل ، لاستنباطها منه ، والحكم أصل لها ، فمنازعة المعترض في الفرع - الذي هو العلة - يشعر بتسليم الأصل - الذي هو الحكم - إذ لو لم يكن تسليما له ، لكان منعه أولى وأجدى على المعترض .

                وأما تضمنه تسليم الوصف في الفرع والأصل ، فلأنه يسأل عن عليته ، وهو كونه علة ، وذلك فرع على تحقق الوصف في نفسه في الأصل والفرع ، إذ لو لم يكن ذلك ، لكان منعه وجود الوصف أولى به ، وأجدى عليه ، ولأنه قد سبق في سؤال المنع أن أقسامه أربعة ، وترتيبها في الاصطلاح هكذا : منع حكم الأصل ، ثم منع وجود الوصف فيه ، ثم منع كونه علة ، ثم منع وجوده في الفرع .

                وصورة إيرادها في قولنا : النبيذ مسكر ، فكان حراما كالخمر ؛ أن يقال : لا [ ص: 500 ] نسلم تحريم الخمر ، ثم لا نسلم وجود الإسكار فيه ، ثم لا نسلم كونه علة ، ثم لا نسلم وجود الإسكار في النبيذ ، فقوله : لا نسلم كونه علة هو سؤال المطالبة ، " وهو ثالث المنوع " ، والعادة أن المعترض يبتدئ بالمنوع أول أول ، فلا ينتقل إلى منع إلا وقد سلم الذي قبله ، انقطاعا أو تنزلا . وقد علم أن قبل سؤال المطالبة منعين ، فيتضمن إيراده تسليمهما ، وبعده منع سؤال المطالبة فرع عليه ، فيتضمن تسليمه أيضا كما تقرر .

                قوله : " وهو " يعني سؤال المطالبة " ثالث المنوع المتقدمة " يعني أقسام المنع التي ذكرناها آنفا ، وفي موضعها في السؤال الرابع ، والإشارة بكونه ثالث المنوع المتقدمة ، لأن الجواب عنه ههنا بالجواب هناك ، وهو الدليل على عليته بما سبق ، من نص ، أو إجماع ، أو استنباط . وقد منع قوم من قبول سؤال المطالبة ، واحتجوا عليه بما لا حاصل له .

                والدليل على قبوله : أن المستدل إما لا يعتقد علية الوصف الذي يذكره فيحرم عليه ذكره ، ولا يصح الإلحاق به ، وإما أن يعتقد عليته ، فإما تحكما بغير دليل ، فلا يقبل ، أو بدليل ، فيجب إبداؤه لتحصل به الفائدة ، ويلزم الانقياد ، وكالنبي ، لا يسمع مجرد دعواه النبوة ، حتى يبرهن عليها بالمعجزة .



                السؤال " السابع : النقض " .

                اعلم أن استعمال النقض في المعاني كالعلة والوضوء والرأي ونحوها [ ص: 501 ] مجاز ، وإنما حقيقته في البناء ، واستعمل في المعاني بعلاقة الإبطال ، وتغيير الوضع ، فإن ذلك مشترك بين البناء والمعنى المنقوضين .

                قوله : " وهو إبداء العلة بدون الحكم " ، وقيل : تخلف الحكم عما علل به من الوصف ، وقيل : إبداء العلة المذكورة من جهة المستدل ، مع تخلف الحكم وفاقا ، ومعانيها متقاربة .

                ومثاله : أن يقال في مسألة النباش : سرق نصابا كاملا من حرز مثله ، فيجب عليه القطع ، كسارق مال الحي ، فيقال : هذا ينتقض بالوالد يسرق مال ولده ، وصاحب الدين يسرق مال مديونه ، فإن الوصف موجود فيهما ، ولا يقطعان ، وكذا قوله : قتل عمد عدوان ، فأوجب القصاص ، فقيل : ينتقض بقتل الأب ولده ، والسيد عبده ، والمسلم الذمي ، فإن الوصف موجود ، والقصاص منتف .

                قوله : " وفي بطلان العلة به " أي : بالنقض ، " خلاف " سبق في مسألة تخصيص العلة ، ورجحنا هناك عدم البطلان على ما مر .

                قوله : " ويجب احتراز المستدل في دليله عن صورة النقض على الأصح " .

                مثاله في المثالين المذكورين ؛ أن يقول : سرق نصابا كاملا من حرز مثله ، وليس أبا ولا مديونا للمسروق منه ، فلزمه القطع ، ويقول : قتل عمد عدوان ، خال عن مانع الإيلاد ، والملك ، والتفاوت في الدين ، فأوجب القصاص ، ولا نزاع في استحباب هذا الاحتراز ، وإنما النزاع في وجوبه ، فمن لم يوجبه يقول : إن النقض سؤال خارج عن القياس ، فلا يجب إدخاله في [ ص: 502 ] صلب القياس ، بل إذا أورده المعترض ، لزم جوابه بما يدفعه كسائر الأسئلة ، ولأن فيه تنبيها للمعترض على موضع النقض ، وفي ذلك نشر الكلام وتبدده ، وهو خلاف المطلوب من المناظرة ، ومن أوجبه ، قال : لأن فيه حسم مادة الشغب ، وانتشار الكلام ، وسدا لبابه ، فكان واجبا ، لما فيه من صيانة الكلام عن التبديل ، وللقولين اتجاه ، وهذا الأخير أصح لما ذكرناه .

                والجواب عن الأول : سؤال النقض ، وإن كان خارجا عن القياس ، إلا أن المقتضي والمصحح له خلل في طلب القياس ، فوجب الاعتناء بسده ، كسجود السهو مع الصلاة .

                وقولهم : فيه تنبيه للمعترض على موضع النقض .

                قلنا : فإن كان كذلك ، فلا يقدح في وجوب الاحتراز ، لأن المناظرة المشروعة مقام عدل وإنصاف ، يجب على الإنسان أن يتكلم فيه له وعليه ، متوخيا للحق ، وإنما يصلح أن يكون ما ذكرتم مانعا من الاحتراز أن لو كان المقصود من المناظرة غلبة الخصم بالمخادعة ، وتخييل ما لا حقيقة له ، كما في قوله - عليه السلام - : الحرب خدعة وليس الأمر كذلك ، لأن الله تعالى قال : وجادلهم بالتي هي أحسن [ النحل : 125 ] ، [ ص: 503 ] ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن [ العنكبوت : 46 ] ، وما ذكرناه من الاحتراز عن صورة النقض أحسن ، لما فيه من جمع الكلام ، وصيانته عن النقض والنشر ، فكان واجبا ، عملا بمقتضى الأمر به .

                قوله : " ودفعه : إما بمنع وجود العلة ، أو الحكم في صورته " .

                أي : ودفع سؤال النقض بالجواب عنه من وجوه :

                أحدها : منع وجود العلة في صورة النقض ، لأن النقض إنما تحقق بوجود العلة ، وتخلف الحكم عنها ، فإذا منع وجود العلة ، لم يتحقق النقض ، ثم تقول : إنما تخلف الحكم في الصورة المذكورة لعدم علته ، فهو يدل على صحة علتي عكسا ، وهو انتفاء الحكم لانتفائها .

                مثاله : أن يقول الحنفي في قتل المسلم بالذمي : قتل عمد عدوان فيجب القصاص ، كما في المسلم بالمسلم ، فيقال له : ينتقض بقتل المعاهد ، فإنه قتل عمد عدوان ، ولا يقتل به المسلم ، فيقول : لا أسلم أنه عدوان ، فيندفع النقض بذلك إن ثبت له .

                وهل للمعترض أن يدل على وجود العلة في صورة النقض ؟ فيه أقوال :

                أحدها : لا ، لأن المعترض يصير مستدلا ، والمستدل معترضا ، فتنقلب قاعدة النظر ، كما لو قال المعترض في الصورة المذكورة على أن قتل المعاهد عدوان : إنه قتل مخفر لذمة الإسلام ، وكل ما كان مخفرا لذمة الإسلام فهو عدوان كقتل المسلم ، فيقول المستدل : لا أسلم أنه مخفر لذمة الإسلام فيفضي إلى ما ذكرنا .

                الثاني : له ذلك ، لأن به يتحقق سؤاله ، ويتم مقصوده ، أشبه المستدل إذا [ ص: 504 ] منع حكم الأصل ، له أن يدل عليه ، كما سبق .

                الثالث - وهو اختيار الآمدي - إن تعذر على المعترض الاعتراض بغير النقض ، جاز له إثبات العلة في صورته ، تحصيلا لفائدة النظر ، وإن أمكن الاعتراض بغيره ، لم يجز له ، لما فيه من قلب القاعدة مع إمكان حصول المقصود بدونها .

                الوجه الثاني في جواب النقض منع الحكم في صورته .

                مثاله في الصورة المذكورة أن يقول : لا أسلم الحكم في المعاهد ، فإن عندي يجب القصاص بقتله ، وليس للمعترض أن يدل على ثبوت الحكم في المعاهد ، وهو عدم القصاص ، لأنه انتقال إلى مسألة أخرى .

                قوله : " ويكفي المستدل قوله : لا أعرف الرواية فيها ، إذ دليله صحيح ، فلا يبطل بمشكوك فيه " ، أي : إذا نقض المعترض على المستدل علته بصورة ، فللمستدل أن يجيب عن النقض بالتصريح بمنع الحكم ، كقوله : لا أسلم أن المسلم لا يقتل بالمعاهد ، وإن قال : لا أعرف الرواية في صورة النقض ، كفاه ذلك في دفعه ، لأن دليله على العلة صحيح ، وهو قوله : قتل عمد عدوان ، فلا يبطل بأمر مشكوك فيه ، وذلك لأن المستدل إذا لم يعرف الرواية في صورة النقض ، احتمل أن يكون الحكم فيها على وفق العلة ، فلا يرد النقض ، واحتمل أن يكون على خلافها ، فيرد ، وإذا احتمل وروده وعدم وروده ، وعلة القياس صحيحة بإحدى الطرق المصححة للعلة ، فلا يبطل بأمر متردد فيه .

                قوله : " وليس للمعترض أن يدل على ثبوت ذلك " ، أي : على ثبوت العلة [ ص: 505 ] أو الحكم ، إذا منعهما المستدل " في صورة النقض ، لأنه انتقال " عن محل النظر ، " وغصب " لمنصب المستدل ، حيث ينقلب المعترض مستدلا وقد سبق هذا ، وبينا الخلاف في دلالته على العلة دون الحكم .

                قوله : " أو ببيان مانع ، أو انتفاء شرط تخلف لأجله الحكم في صورة النقض " .

                هذا الوجه الثالث في الجواب عن النقض ، وهو أن يبين في صورة النقض وجود مانع ، أو انتفاء شرط يحيل تخلف الحكم فيها عليه ، كما سبق في تخصيص العلة ، كما إذا أورد المعترض قتل الوالد ولده ، على علة القتل العمد العدوان ، فقال المستدل : تخلف الحكم لمانع الأبوة ، وإذا قال المستدل : سرق نصابا كاملا ولا شبهة له فيه فقطع ، فأورد المعترض السرقة من غير حرز ، فقال المستدل : تخلف الحكم فيها لانتفاء شرط ، وهو الحرز ، وكما إذا قال : نصاب كامل حال عليه الحول ، فوجبت فيه الزكاة كالمضروب ، فأورد المعترض مال الصبي والمجنون والمديون ، فيقول المستدل : مال الصبي والمجنون فات فيه شرط التكليف ، تغليبا لمعنى العبادة فيه عند الحنفي ، ومال المديون وجد فيه مانع الدين ، فلذلك تخلف الحكم في هذه الصور .

                قوله : ويسمع من المعترض نقض أصل خصمه ، فيلزمه العذر عنه ، لا أصل نفسه ، نحو : هذا الوصف لا يطرد على أصلي ، فكيف يلزمني ؟ ، إذ دليل المستدل المقتضي للحكم حجة عليه في صورة النقض ، كمحل النزاع " .

                يعني أن النقض من المعترض ، إما أن يتوجه إلى أصل خصمه المستدل ، أو إلى أصل نفسه - يعني المعترض - فإن كان النقض متوجها إلى أصل [ ص: 506 ] المستدل ، لزمه الجواب والاعتذار عنه ، كما سبقت أمثلته ، لاختصاص النقض بمذهبه ، فبدون الجواب عنه تبين فساده ، كما إذا قال الحنفي في قتل المسلم بالذمي : إنه قتل عمد عدوان ، فيوجب القصاص ، قياسا على المسلم بالمسلم ، فيقول الحنبلي : هذا ينتقض على أصلك بما إذا قتله بالمثقل ، فإن الأوصاف موجودة ، والقصاص منتف عندك ، فله أن يعتذر عنه بأدنى عذر يليق بمذهبه ، ولا يعترض عليه فيه ، لأنه أعرف بمأخذه ، مثل أن يقول : ليس ذلك قتلا ، وليس عمدا ، أو ما شاء من كلامهم ، وإن كان النقض متوجها من المعترض إلى أصل نفسه ، لم يقدح في علة المستدل ، ولم يلزمه العذر عنه ، وذلك كما إذا قال الحنبلي : لا يقتل المسلم بالذمي لأنه كافر ، فلا يقتل به المسلم قياسا على الحربي ، فقال الحنفي : هذا الوصف لا يطرد على أصلي ، إذ هو باطل بالمعاهد ، فإنه كافر ، ويقتل به المسلم عندي . وكذا لو قال حنبلي : يقطع النباش ، لأنه سارق ، فقال الحنفي : هذا باطل على أصلي بسارق الأشياء الرطبة ، فإنه سارق ، ولا يجب قطعه عندي ، وإذا كان وصفك أيها المستدل غير مطرد عندي ، فكيف يلزمني ؟ فهذا لا يسمع منه على الصحيح ، لأنه دليل المستدل - وهو الوصف المقتضي للحكم ، وهو الكفر في مسألة المسلم بالذمي ، والسرقة في مسألة النباش - حجة على المعترض في صورة النقض ، كما أنها حجة عليه في محل النزاع .

                وتقريره : أن للمستدل أن يقول : العلة في قطع السارق عندي كونه سارقا ، فأنا أقول بوجوب القطع في الصورتين : صورة النزاع ، وهو قطع النباش ، وصورة النقض ، وهو القطع بسرقة الأشياء الرطبة ، فالوصف الذي [ ص: 507 ] ذكرته حجة عليك في الموضعين ، فإن كان عندك قادح في نفس العلة ، فأبده .

                أما كونها لا تطرد على أصلك ، فلا يلزمني ، إذ هذا حمل لي على مذهبك بالقوة .

                قوله : " أو ببيان ورود النقض المذكور على المذهبين ، كالعرايا على المذاهب " .

                هذا الوجه الرابع في الجواب عن النقض ، وهو أن يبين المستدل ، أن صورة النقض واردة على مذهبه ومذهب خصمه ، كما إذا قال المستدل : مكيل ، فحرم فيه التفاضل ، فأورد المعترض العرايا ، إذ هي مكيل ، وقد جاز فيه التفاضل بينه وبين التمر المبيع به على وجه الأرض ، فيقول المستدل : هذا وارد علي وعليك جميعا ، فليس بطلان مذهبي به أولى من بطلان مذهبك .

                الوجه الخامس وليس في " المختصر " ، بل ذكره النيلي ، وهو أن يقول المستدل : هذه العلة منصوصة ، فهي مؤثرة بالنص ، فلا يرد عليها نقض ، كقوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ المائدة : 38 ] إذا علل بالسرقة في مسألة النباش وغيره ، فأورد عليه بعض النقوض المذكورة ، وكذلك علة العرايا منصوصة ، فلا يؤثر فيها النقض بالعرايا .

                قوله : " وقول المعترض : دليل علية وصفك موجود في صورة النقض ، غير مسموع ، إذ هو نقض لدليل العلة ، لا لنفس العلة ، فهو انتقال " يعني إذا نقض المعترض علة المستدل بصورة ، فأجاب المستدل عن ذلك بأحد الأجوبة المتقدمة ، إما بمنع العلة ، أو الحكم في صورة النقض ، أو يورد النقض [ ص: 508 ] على المذهبين ، أو غير ذلك ، فقال المعترض : الدليل الذي دل على أن وصفك الذي عللت به في محل النزاع علة ؛ موجود في صورة النقض ، فيلزمك الإقرار بثبوت الحكم فيها ، عملا بوجود الوصف المقتضي له ، لكنك لم تقل به ، فيلزمك النقض .

                مثاله : أن يقول الحنفي في قتل المسلم بالذمي : قتل عمد عدوان ، فأوجب القصاص ، كقتل المسلم ، فيقول الحنبلي : لا أسلم أن قتل الذمي عدوان ، فيقول الحنفي : الدليل على أن قتل الذمي عدوان أنه معصوم بعهد الإسلام ، وكل من كان معصوما بعصمة الإسلام ، فقتله عدوان ، فيقول المعترض : دليل العدوانية في قتل الذمي موجود في قتل المعاهد ، فليكن عدوانا يجب به القصاص على المسلم ، فهذا نقض لدليل العلة ، لا لنفس العلة ، فلا يسمع ، لأنه انتقال .

                وبيانه : أن الكلام أولا كان في نقض وجوب قتل المسلم بالذمي بعدم وجوب قتله بالمعاهد مع اشتراكهما في العلة ، وهو نقض للحكم ، والكلام الآن في نقض كون إخفار ذمة الإسلام بقتل الذمي عدوانا عليه بكون الإخفار المذكور بقتل المعاهد ليس عدوانا عليه ، وهو نقض لدليل العلة كما ذكر ، فقد انتقل من النقض لعلة الحكم إلى النقض لدليل علة الحكم ، فهو شبيه بما إذا انتقل عن محل النزاع إلى إثبات الحكم في صورة النقض ، فكأنه قال : يلزمك أن تعترف بالعدوانية في صورة النقض لوجود دليلها الذي اعتمدت عليه في محل النزاع .

                [ ص: 509 ] قوله : " ويكفي المستدل في رده أدنى دليل يليق بأصله " .

                أي : ويكفي المستدل في رد هذا النقض على دليل يليق بأصله ، أي : يوافقه ويطابقه ، مثل أن يقول : إنما لم أحكم بالعدوانية في صورة قتل المسلم بالحربي لمعارض لي في مذهبي ، وهو أن الحربي المعاهد مؤقت العهد ، فالمقتضي لانتفاء القصاص فيه قوي موافق للأصل ، والمقتضي لإثباته ضعيف ، بخلاف الذمي ، فإن المقتضي لقتل المسلم به قوي لتأبد عهده وذمته ، فصار كالمسلم ، أو غير ذلك من الأعذار .




                الخدمات العلمية