الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 236 ] فصل في الهجرة : وهي الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام . قال الله تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } . الآيات . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أنا بريء من مسلم بين مشركين ، لا تراءا ناراهما } . رواه أبو داود .

                                                                                                                                            ومعناه لا يكون بموضع يرى نارهم ، ويرون ناره ، إذا أوقدت . في آي وأخبار سوى هذين كثير . وحكم الهجرة باق ، لا ينقطع إلى يوم القيامة . في قول عامة أهل العلم . وقال قوم : قد انقطعت الهجرة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا هجرة بعد الفتح } . وقال : { قد انقطعت الهجرة ، ولكن جهاد ونية } .

                                                                                                                                            وروي { أن صفوان بن أمية لما أسلم ، قيل له : لا دين لمن لم يهاجر . فأتى المدينة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما جاء بك أبا وهب ؟ قال : قيل إنه لا دين لمن لم يهاجر . قال : ارجع أبا وهب إلى أباطح مكة ، أقروا على مساكنكم ، فقد انقطعت الهجرة ، ولكن جهاد ونية } . روى ذلك كله سعيد .

                                                                                                                                            ولنا ما روى معاوية ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها } . رواه أبو داود . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ، قال : { لا تنقطع الهجرة ما كان الجهاد } . رواه سعيد ، وغيره ، مع إطلاق الآيات والأخبار الدالة عليها ، وتحقق المعنى المقتضي لها في كل زمان .

                                                                                                                                            وأما الأحاديث الأول ، فأراد بها لا هجرة بعد الفتح من بلد قد فتح . وقوله لصفوان : " إن الهجرة قد انقطعت " . يعني من مكة ; لأن الهجرة الخروج من بلد الكفار ، فإذا فتح لم يبق بلد الكفار ، فلا تبقى منه هجرة . وهكذا كل بلد فتح لا يبقى منه هجرة ، وإنما الهجرة إليه .

                                                                                                                                            إذا ثبت هذا ، فالناس في الهجرة على ثلاثة أضرب ; أحدها ، من تجب عليه ، وهو من يقدر عليها ، ولا يمكنه إظهار دينه ، ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار ، فهذا تجب عليه الهجرة ; لقول الله تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا } . وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب .

                                                                                                                                            ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه ، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . الثاني ; من لا هجرة عليه . وهو من يعجز عنها ، إما لمرض ، أو إكراه على الإقامة ، أو ضعف ; من النساء والولدان وشبههم ، فهذا لا هجرة عليه ; لقول الله تعالى : { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا } . ولا توصف باستحباب ; لأنها غير مقدور عليها .

                                                                                                                                            [ ص: 237 ] والثالث ، من تستحب له ، ولا تجب عليه . وهو من يقدر عليها ، لكنه يتمكن من إظهار دينه ، وإقامته في دار الكفر ، فتستحب له ، ليتمكن من جهادهم ، وتكثير المسلمين ، ومعونتهم ، ويتخلص من تكثير الكفار ، ومخالطتهم ، ورؤية المنكر بينهم . ولا تجب عليه ; لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة . وقد كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم مقيما بمكة مع إسلامه .

                                                                                                                                            وروينا { أن نعيم النحام ، حين أراد أن يهاجر ، جاءه قومه بنو عدي ، فقالوا له : أقم عندنا ، وأنت على دينك ، ونحن نمنعك ممن يريد أذاك ، واكفنا ما كنت تكفينا . وكان يقوم بيتامى بني عدي وأراملهم ، فتخلف عن الهجرة مدة ، ثم هاجر بعد ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : قومك كانوا خيرا لك من قومي لي ، قومي أخرجوني ، وأرادوا قتلي ، وقومك حفظوك ومنعوك . فقال : يا رسول الله : بل قومك أخرجوك إلى طاعة الله ، وجهاد عدوه وقومي ثبطوني عن الهجرة ، وطاعة الله أو نحو هذا القول } .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية