الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 356 ] 69

ثم دخلت سنة تسع وستين

ذكر قتل عمرو بن سعيد الأشدق

في هذه السنة خالف عمرو بن سعيد عبد الملك بن مروان وغلب على دمشق ، فقتله ، وقيل : كانت هذه الحادثة سنة سبعين .

وكان السبب في ذلك أن عبد الملك بن مروان أقام بدمشق بعد رجوعه من قنسرين ما شاء الله أن يقيم ، ثم سار يريد قرقيسيا وبها زفر بن الحارث الكلائي ، وكان عمرو بن سعيد مع عبد الملك ، فلما بلغ بطنان حبيب رجع عمرو ليلا ومعه حميد بن حريث الكلبي وزهير بن الأبرد الكلبي ، فأتى دمشق وعليها عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي قد استخلفه عبد الملك ، فلما بلغه رجوع عمرو بن سعيد هرب عنها ، ودخلها عمرو فغلب عليها وعلى خزائنها ، وهدم دار ابن أم الحكم ، واجتمع الناس إليه ، فخطبهم ومناهم ووعدهم .

وأصبح عبد الملك وفقد عمرا ، فسأل عنه فأخبر خبره ، فرجع إلى دمشق فقاتله أياما ، وكان عمرو إذا أخرج حميد بن حريث على الخيل أخرج إليه عبد الملك سفيان بن الأبرد الكلبي ، وإذا أخرج عمرو زهير بن الأبرد أخرج إليه عبد الملك حسان بن مالك بن بحدل .

ثم إن عبد الملك وعمرا اصطلحا وكتبا كتابا وآمنه عبد الملك ، فخرج عمرو في الخيل إلى عبد الملك ، فأقبل حتى أوطأ فرسه أطناب عبد الملك ، فانقطعت وسقط السرادق ، ثم دخل على عبد الملك فاجتمعا .

ودخل عبد الملك دمشق يوم الخميس ، فلما كان بعد دخول عبد الملك بأربعة أيام [ ص: 357 ] أرسل إلى عمرو أن ائتني ، وقد كان عبد الملك استشار كريب بن أبرهة الحميري في قتل عمرو ، فقال : لا ناقة لي في هذا ولا جمل ، في مثل هذا هلكت حمير .

فلما أتى الرسول عمرا يدعوه صادف عنده عبد الله بن يزيد بن معاوية ، فقال لعمرو : يا أبا أمية ، أنت أحب إلي من سمعي ومن بصري ، وأرى لك أن لا تأتيه . فقال عمرو : لم ؟ قال : لأن تبيع ابن امرأة كعب الأحبار قال : إن عظيما من ولد إسماعيل يرجع فيغلق أبواب دمشق ، ثم يخرج منها فلا يلبث أن يقتل . فقال عمرو : والله لو كنت نائما ما انتهبني ابن الزرقاء ولا اجترأ علي ، أما إني رأيت عثمان البارحة في المنام فألبسني قميصه . وكان عبد الله بن يزيد زوج ابنة عمرو . ثم قال عمرو للرسول : أنا رائح العشية .

فلما كان العشاء لبس عمرو درعا ولبس عليها القباء وتقلد سيفه ، وعنده حميد بن حريث الكلبي ، فلما نهض متوجها عثر بالبساط ، فقال له حميد : والله لو أطعتني لم تأته . وقالت له امرأته الكلبية كذلك ، فلم يلتفت ومضى في مائة من مواليه .

وقد جمع عبد الملك عنده بني مروان ، فلما بلغ الباب أذن له فدخل ، فلم يزل أصحابه يحبسون عند كل باب حتى بلغ قارعة الدار وما معه إلا وصيف له ، فنظر عمرو إلى عبد الملك وإذا حوله بنو مروان ، وحسان بن بحدل الكلبي ، وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي ، فلما رأى جماعتهم أحس بالشر ، فالتفت إلى وصيفه وقال : انطلق إلى أخي يحيى فقل له يأتني ، فلم يفهم الوصيف فقال له : لبيك ! فقال عمرو : اغرب عني في حرق الله وناره ! وأذن عبد الملك لحسان وقبيصة ، فقاما فلقيا عمرا في الدار ، فقال عمرو لوصيفه : انطلق إلى يحيى فمره أن يأتيني . فقال : لبيك ! فقال عمرو : اغرب عني .

فلما خرج حسان وقبيصة أغلقت الأبواب ودخل عمرو ، فرحب به عبد الملك وقال : هاهنا هاهنا يا أبا أمية ! فأجلسه معه على السرير ، وجعل يحادثه طويلا ، ثم قال : يا غلام ، خذ السيف عنه . فقال عمرو : إنا لله يا أمير المؤمنين . فقال عبد الملك : أتطمع أن تجلس معي متقلدا سيفك ؟ فأخذ السيف عنه ، ثم تحدثا ، ثم قال له عبد الملك : يا أبا أمية ، إنك حيث خلعتني أليت بيمين إن أنا ملأت عيني منك وأنا مالك لك أن أجعلك في جامعة . فقال له بنو مروان : ثم تطلقه يا أمير المؤمنين ؟ قال : نعم ، وما عسيت أن [ ص: 358 ] أصنع بأبي أمية ؟ فقال بنو مروان : أبر قسم أمير المؤمنين . فقال عمرو : قد أبر الله قسمك يا أمير المؤمنين .

فأخرج من تحت فراشه جامعة وقال : يا غلام ، قم فاجمعه فيها . فقام الغلام فجمعه فيها . فقال عمرو : أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رءوس الناس . فقال عبد الملك : أمكرا يا أبا أمية عند الموت ؟ لا والله ما كنا لنخرجك في جامعة على رءوس الناس . ثم جذبه جذبة أصاب فمه السرير فكسر ثنيتيه . فقال عمرو : أذكرك الله يا أمير المؤمنين ، كسر عظم مني فلا تركب ما هو أعظم من ذلك . فقال له عبد الملك : والله لو أعلم أنك تبقي علي إن أنا أبقيت عليك وتصلح قريش لأطلقتك ، ولكن ما اجتمع رجلان في بلده قط على ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه . فلما رأى عمرو أنه يريد قتله قال : أغدرا يا ابن الزرقاء !

وقيل : إن عمرا لما سقطت ثنيتاه جعل يمسهما ، فقال عبد الملك : يا عمرو ، أرى ثنيتيك قد وقعتا منك موقعا لا تطيب نفسك بعده .

وأذن المؤذن العصر فخرج عبد الملك يصلي بالناس وأمر أخاه عبد العزيز أن يقتله ، فقام إليه عبد العزيز بالسيف ، فقال عمرو : أذكرك الله والرحم أن تلي قتلي ، ليقتلني من هو أبعد رحما منك . فألقى السيف وجلس ، وصلى عبد الملك صلاة خفيفة ودخل وغلقت الأبواب . ورأى الناس عبد الملك حين خرج وليس معه عمرو ، فذكروا ذلك ليحيى بن سعيد ، فأقبل في الناس ومعه ألف عبد لعمرو ، وناس من أصحابه كثير ، فجعلوا يصيحون بباب عبد الملك : أسمعنا صوتك يا أبا أمية ! فأقبل مع يحيى حميد بن حريث وزهير بن الأبرد ، فكسروا باب المقصورة وضربوا الناس بالسيوف ، وضرب الوليد بن عبد الملك على رأسه ، واحتمله إبراهيم بن عربي صاحب الديوان ، فأدخله بيت القراطيس .

ودخل عبد الملك حين صلى فرأى عمرا بالحياة ، فقال لعبد العزيز : ما منعك أن تقتله ؟ فقال : إنه ناشدني الله والرحم فرققت له . فقال له : أخزى الله أمك البوالة على [ ص: 359 ] عقبيها ، فإنك لم تشبه غيرها ! ثم أخذ عبد الملك الحربة فطعن بها عمرا ، فلم تجز ، ثم ثنى فلم تجز ، فضرب بيده على عضده فرأى الدرع فقال : ودرع أيضا ؟ إن كنت لمعدا ! فأخذ الصمصامة ، وأمر بعمرو فصرع ، وجلس على صدره فذبحه وهو يقول :

يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي أضربك حيث تقول الهامة اسقوني



وانتفض عبد الملك رعدة ، فحمل عن صدره فوضع على سريره ، وقال : ما رأيت مثل هذا قط ، قتله صاحب دنيا ولا طالب آخرة .

ودخل يحيى ومن معه على بني مروان يخرجهم ومن كان من مواليهم ، فقاتلوا يحيى وأصحابه ، وجاء عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي ، فدفع إليه الرأس ، فألقاه إلى الناس ، وقام عبد العزيز بن مروان وأخذ المال في البدر ، فجعل يلقيها إلى الناس ، فلما رأى الناس الرأس والأموال ( انتهبوا الأموال وتفرقوا ) ، ثم أمر عبد الملك بتلك الأموال فجبيت حتى عادت إلى بيت المال .

وقيل : إن عبد الملك إنما أمر بقتل عمرو حين خرج إلى الصلاة غلامه أبا الزعيزعة ، فقتله وألقى رأسه إلى الناس ، ورمي يحيى بصخرة في رأسه ، وأخرج عبد الملك سريره إلى المسجد ، وخرج وجلس عليه ، وفقد الوليد ابنه فقال : والله لئن كانوا قتلوه لقد أدركوا ثأرهم . فأتاه إبراهيم بن عربي الكناني ، فقال : الوليد عندي ، وقد جرح وليس عليه بأس .

وأتي عبد الملك بيحيى بن سعيد ، وأمر به أن يقتل ، فقام إليه عبد العزيز بن مروان فقال : جعلت فداك يا أمير المؤمنين ! أتراك قاتلا بني أمية في يوم واحد ! فأمر بيحيى فحبس . وأراد قتل عنبسة بن سعيد ، فشفع فيه عبد العزيز أيضا ، وأراد قتل عامر بن الأسود الكلبي ، فشفع فيه عبد العزيز ، وأمر ببني عمرو بن سعيد فحبسوا ، ثم أخرجهم مع عمهم يحيى ، فألحقهم بمصعب بن الزبير .

[ ص: 360 ] ثم بعث عبد الملك إلى امرأة عمرو الكلبية : ابعثي إلي كتاب الصلح الذي كتبته لعمرو . فقالت لرسوله : ارجع فأعلمه أن ذلك الصلح معه في أكفانه ليخاصمك عند ربه .

وكان عبد الملك وعمرو يلتقيان في النسب في أمية ، هذا عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ، وذاك عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية ، وكانت أم عمرو أم البنين بنت الحكم عمة عبد الملك .

فلما قتل عبد الملك مصعبا ، واجتمع الناس عليه - دخل أولاد عمرو على عبد الملك ، وهم أربعة : أمية ، وسعيد ، وإسماعيل ، ومحمد ، فلما نظر إليهم قال لهم : إنكم أهل بيت لم تزالوا ترون لكم على جميع قومكم فضلا لم يجعله الله لكم ، وإن الذي كان بيني وبين أبيكم لم يكن حديثا ، ولكن كان قديما في أنفس أوليكم على أولينا في الجاهلية . فأقطع بأمية ، وكان أكبرهم ، فلم يقدر أن يتكلم ، فقام سعيد بن عمرو ، وكان الأوسط ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ما تنعى علينا أمرا كان في الجاهلية ، وقد جاء الله بالإسلام فهدم ذلك ووعد جنة وحذر نارا ، وأما الذي كان بينك وبين عمرو فإنه كان ابن عمك ، وأنت أعلم بما صنعت ، وقد وصل عمرو إلى الله ، وكفى بالله حسيبا ، ولعمري لئن أخذتنا بما كان بينك وبينه لبطن الأرض خير لنا من ظهرها . فرق لهم عبد الملك وقال : إن أباكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله ، فاخترت قتله على قتلي ، وأما أنتم فما أرغبني فيكم ، وأوصلني لقرابتكم ! وأحسن جائزتهم ووصلهم وقربهم .

وقيل : إن خالد بن يزيد قال لعبد الملك ذات يوم : عجبت كيف أصبت غرة عمرو . فقال عبد الملك :

أدنيته مني ليسكن روعه     فأصول صولة حازم مستمكن
غضبا ومحمية لديني إنه     ليس المسيء سبيله كالمحسن


[ ص: 361 ] وقيل : إنما خلع عمرو وقتله حين سار عبد الملك نحو العراق لقتال مصعب ، فقال له عمرو : إنك تخرج إلى العراق وقد كان أبوك جعل لي هذا الأمر بعده ، وعلى ذلك قاتلت معه ، فاجعل هذا الأمر لي بعدك ، فلم يجبه عبد الملك إلى ذلك ، فرجع إلى دمشق ، وكان من قتله ما تقدم .

وقيل : بل كان عبد الملك قد استخلف عمرا على دمشق ، فخالفه وتحصن بها . والله أعلم .

ولما سمع عبد الله بن الزبير بقتل عمرو قال : إن ابن الزرقاء قتل لطيم الشيطان ، وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون وبلغ ذلك ابن الحنفية فقال : فمن نكث فإنما ينكث على نفسه يرفع له يوم القيامة لواء على قدر غدرته .

التالي السابق


الخدمات العلمية