الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 375 ] إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا .

                          بين الله في هذه الآيات حال أناس من أصحاب الضلال البعيد الذي ذكره في الآية التي قبلهن آمنوا في الظاهر نفاقا أو تقليدا ، وكان الكفر قد استحوذ على قلوبهم فلم يدع فيها استعدادا لفهم الإيمان ; فلذلك لم يعصمهم من الرجوع إلى الكفر مرة بعد أخرى ; لأنهم لم يعرفوا حقيقته ولا ذاقوا حلاوته ، ثم وعيد المنافقين كافة وبيان موالاتهم للكافرين وما بينهم من التناسب الذي يقتضي اشتراكهم في الوعيد وتحذير المؤمنين منهم فقال : إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا ، ذلك بأنه قد تبين من ذبذبتهم بين الإيمان والكفر أنه قد طبع على قلوبهم حتى فقدوا الاستعداد لفهم حقيقة الإيمان وحقيته ومزاياه ، فهم بحسب سنة الله في خلقه لا يرجى لهم أن يهتدوا إلى سبيل من سبله ، ولا أن يغفر لهم ما دنس أرواحهم من ذنوبه ، وإنما قلنا إن الآية مبينة لسنة الله تعالى في أمثالهم ; لأن أرحم الراحمين واسع المغفرة لم يكن ليحرم أحدا من عباده المغفرة والهداية بمحض الخلق والمشيئة ، وإنما مشيئته مقترنة بحكمته ، وقد قضت حكمته الأزلية بأن يكون كسب البشر لعلومهم وأعمالهم مؤثرا في نفوسهم ، فمن طال [ ص: 376 ] عليه أمد التقليد ، حجب عقله عن نور الدليل ، حتى لا يجد إليه من سبيل ، ومن طال عليه عهد الفسوق والعصيان ، حجب عن أسباب الغفران ، وهي التي بينها تعالى في قوله : وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ( 20 : 82 ) ، وقوله حكاية لدعاء الملائكة واستغفارهم للمؤمنين : ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ( 40 : 7 ) ، وغير ذلك من الآيات ، وقد بينا مرارا أن المغفرة عبارة عن محو أثر الذنب من النفس بتأثير التوبة والعمل الصالح الذي يضاد أثره أثر ذلك الذنب ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى : إن الحسنات يذهبن السيئات ( 11 : 114 ) ، والقرآن يفسر بعضه بعضا ولا تدل الآية على أن هؤلاء إذا آمنوا إيمانا صحيحا لا يقبل منهم بل يقبل قطعا ، وقد روي عن قتادة أن المراد بالآية أهل الكتاب آمن اليهود بالتوراة ثم كفروا وآمن النصارى بالإنجيل ثم كفروا ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، وعن ابن زيد ومجاهد أنها نزلت في المنافقين ، والأول لا يظهر إلا على قول بعضهم : إن كفر اليهود الأول كان باتخاذهم العجل وعبادته ، والثاني كفرهم بالمسيح ، والثالث الذي ازدادوا به كفرا هو كفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - على أن كثيرا من اليهود قد آمنوا ، وأما القول الثاني فهو يظهر فيمن جهروا بالكفر من المنافقين كما يظهر فيمن يدخلون في الإسلام تقليدا لبعض من يثقون بهم ثم يرجعون إلى الكفر لمثل ذلك ; لأنهم لم يفهموا حقيقة الإيمان والإسلام ، وهكذا فعلوا مرة بعد أخرى ، ثم رأوا أن الكفر ألصق بنفوسهم لطول أنسهم به وانهماكهم فيه بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ، الغالب في استعمال البشارة أن تكون في الإخبار بما يسر ، فهي إذا مأخوذة من انبساط بشرة الوجه ، كما أن السرور مأخوذ من انبساط أساريره ، وعلى هذا يقولون : إن استعمالها فيما يسوء كما هنا يكون من باب التهكم ، وقيل : إن البشارة تستعمل فيما يسر وفيما يسوء استعمالا حقيقيا ; لأن أصلها الإخبار بما يظهر أثره في بشرة الوجه في الانبساط والتمدد ، أو الانقباض والتغضن ، والأليم : الشديد الألم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية