الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان حقيقة الدنيا في نفسها وأشغالها التي استغرقت همم الخلق حتى أنستهم .

أنفسهم ، وخالقهم ، ومصدرهم وموردهم :

اعلم أن الدنيا عبارة عن أعيان موجودة ، وللإنسان فيها حظ وله في إصلاحها شغل ، فهذه ثلاثة أمور قد يظن ، أن الدنيا عبارة عن آحادها ، وليس كذلك أما الأعيان الموجودة التي الدنيا عبارة عنها ، فهي الأرض ، وما عليها . قال الله تعالى : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا فالأرض فراش للآدميين ، ومهاد ومسكن ومستقر وما عليها لهم ملبس ، ومطعم ، ومشرب ، ومنكح .

ويجمع ما على الأرض ثلاثة أقسام : المعادن ، والنبات ، والحيوان .

أما النبات فيطلبه الآدمي للاقتيات والتداوي ، وأما المعادن فيطلبها للآلات ، والأواني كالنحاس والرصاص وللنقد كالذهب ، والفضة ولغير ذلك من المقاصد ، وأما الحيوان ، فينقسم إلى الإنسان ، والبهائم .

أما البهائم فيطلب منها لحومها للمآكل ، وظهورها للمركب والزينة .

وأما الإنسان ، فقد يطلب الآدمي أن يملك أبدان الناس ليستخدمهم ، ويستسخرهم كالغلمان أو ليتمتع بهم كالجواري والنسوان ويطلب قلوب الناس ليملكها بأن يغرس فيها التعظيم ، والإكرام ، وهو الذي يعبر عنه بالجاه ; إذ معنى الجاه ملك قلوب الآدميين . فهذه هي الأعيان التي يعبر عنها بالدنيا ، وقد جمعها الله تعالى في قوله : زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين وهذا من الإنس والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، وهذا من الجواهر ، والمعادن ، وفيه تنبيه على غيرها من اللآلئ ، واليواقيت ، وغيرها والخيل المسومة والأنعام ، وهي البهائم ، والحيوانات والحرث ، وهو النبات ، والزرع .

فهذه هي أعيان الدنيا ، إلا أن لها مع العبد علاقتين : علاقة مع القلب ، وهو حبه لها ، وحظه منها ، وانصراف همه إليها حتى يصير قلبه كالعبد أو المحب المستهتر بالدنيا ، ويدخل في هذه العلاقة جميع صفات القلب المعلقة بالدنيا كالكبر ، والغل ، والحسد ، والرياء ، والسمعة ، وسوء الظن ، والمداهنة ، وحب الثناء ، وحب التكاثر ، والتفاخر ، وهذه هي الدنيا الباطنة ، وأما الظاهرة ، فهي الأعيان التي ذكرناها .

العلاقة . الثانية مع البدن ، وهو اشتغاله بإصلاح هذه الأعيان لتصلح لحظوظه ، وحظوظ غيره ، وهي جملة الصناعات ، والحرف التي الخلق مشغولون بها .

التالي السابق


(بيان ماهية الدنيا)

(في نفسها) ، أي: ذاتها (وأشغالها التي استغرقت همم الخلق) ، واستولت عليها (حتى أنستهم أنفسهم، وخالقهم، ومصدرهم وموردهم: اعلم) هداك الله تعالى (أن الدنيا عبارة عن أعيان موجودة، وللإنسان فيها حظ) ، ونصيب (وله في صلاحها شغل، فهذه ثلاثة أمور، وقد تظن أن الدنيا عبارة عن آحادها، وليس كذلك) ، بل هي عبارة عن مجموعها (أما الأعيان الموجودة التي الدنيا عبارة عنها، فهي الأرض، وما عليها .

قال الله تعالى: إنا جعلنا ما على الأرض ) من أعيان، ونبات، ومعادن ( زينة لها لنبلوهم ) ، أي: نختبرهم ( أيهم أحسن عملا ) ، أي: أكثر زهدا فيه .

رواه ابن أبي حاتم، عن الثوري (فالأرض فراش الآدميين، ومهاد ومسكن ومستقر) ، وكل ذلك [ ص: 128 ] بنص الآيات الواردة فيه (وما عليها لهم، فلبس، ومطعم، ومشرب، ومنكح) .

أخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها ، قال: ما عليها من شيء (ويجمع ما على الأرض ثلاثة أقسام: المعادن، والنبات، والحيوان .

أما النبات فيطلبه الآدمي للاقتيات، وللتداوي) ، أي: منه ما هو للقوت خاصة، وهو أنواع الحبوب، ومنه ما هو للتداوي، وهو أنواع الحشائش (وأما المعادن فيطلبها الآدمي للآلات، والأواني) ، أي: اتخاذها (كالنحاس) بنوعيه الأحمر، والأصفر (والرصاص) ، والقلعي، وغيرها (وللنقد كالذهب، والفضة) ، فإذا أطلق النقدان في عبارة الفقهاء، فإنما يراد بهما إياهما (ولغير ذلك من المقاصد، وأما الحيوان، فينقسم إلى الإنسان، والبهائم، أما البهائم فتطلب لحومها للأكل، وظهورها للمركب) ، قال تعالى: ومن الأنعام حمولة وفرشا ، فالحمولة ما يحمل عليها، والفرش ما يفرش للذبح (والزينة) ، قال تعالى: والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة .

(وأما الإنسان، فقد يطلب الآدمي أن يملك أبدان الناس ليستخدمهم، ويستسخرهم كالغلمان) شراء بملك اليمين، أو استئجارا (أو ليتمتع بهم كالجواري) بملك اليمين (والنسوان) بعقد النكاح (ويطلب قلوب الناس ليملكها بأن يغرس فيها التعظيم، والإكرام، وهو الذي يعبر عنه بالجاه; إذ معنى الجاه ملك قلوب الآدميين .

فهذه هي الأعيان التي يعبر عنها بالدنيا، وقد جعلها الله تعالى في قوله: زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين وهذا من الإنسان) ، والمراد بالبنين الأولاد الذكور، والحفدة ( والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، وهذا من الجواهر، والمعادن، وفيه تنبيه على غيرها من اللآلئ، واليواقيت، وغيرها) من أنواع الحلي كالماس، والزمرد، والبلخش، والعقيق ( والخيل المسومة ) ، أي: المعلمة السائمة منها والمستعدة ( والأنعام ، وهي البهائم، والحيوانات) ، وهي الأزواج الثمانية المذكورة في القرآن ( والحرث ، وهو النبات، والزرع، فهذه هي أعيان الدنيا، إلا أن لها مع العبد علاقتين: علاقة مع القلب، وهو حبه لها، وحظه منها، وانصراف همه إليها حتى يصير قلبه كالعبد) المذلل (أو المحب المستهتر بالدنيا، ويدخل في هذه العلاقة جميع صفات القلب المتعلقة بالدنيا كالكبر، والغل، والحسد، والرياء، والسمعة، وسوء الظن، والمداهنة، وحب الثناء، وحب التكاثر، والتفاخر، وهذه هي الدنيا الباطنة، وأما الظاهرة، فهي الأعيان التي ذكرناها .

والعلاقة الثانية مع البدن، وهو اشتغاله بإصلاح هذه الأعيان لتصليح حظوظه، وحظوظ غيره، وهي جملة الصناعات، والحرف) بأنواعها (التي الخلق مشغولون بها) ملتفتون إليها .




الخدمات العلمية