الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 7622 ) مسألة قال ( ولا يحل لمسلم أن يهرب من كافرين ، ومباح له أن يهرب من ثلاثة ، فإن خشي الأسر ، قاتل حتى يقتل ) وجملته أنه إذا التقى المسلمون والكفار ، وجب الثبات ، وحرم الفرار بدليل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار } الآية وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } { وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الفرار يوم الزحف ، فعده من الكبائر } .

                                                                                                                                            وحكي عن الحسن والضحاك أن هذا كان يوم بدر خاصة ولا يجب في غيرها ، والأمر مطلق وخبر النبي صلى الله عليه وسلم عام ، فلا يجوز التقييد والتخصيص إلا بدليل ، وإنما يجب الثبات بشرطين ، أحدهما ، أن يكون الكفار لا يزيدون على ضعف المسلمين ، فإن زادوا عليه جاز الفرار لقول الله تعالى : { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين } .

                                                                                                                                            وهذا إن كان لفظه لفظ الخبر ، فهو أمر ، بدليل قوله : { الآن خفف الله عنكم } ولو كان خبرا على حقيقته ، لم يكن ردنا من غلبة الواحد للعشرة إلى غلبة الاثنين تخفيفا ، ولأن خبر الله تعالى صدق لا يقع بخلاف مخبره وقد علم أن الظفر والغلبة لا يحصل للمسلمين في كل موطن يكون العدو فيه ضعف المسلمين فما دون ، فعلم أنه أمر وفرض ، ولم يأت شيء ينسخ هذه الآية ، لا في كتاب ولا سنة ، فوجب الحكم بها .

                                                                                                                                            قال ابن عباس : نزلت : { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } فشق ذلك على المسلمين حين فرض الله عليهم ألا يفر واحد من عشرة ، ثم جاء تخفيف [ ص: 255 ] فقال : { الآن خفف الله عنكم إلى قوله : يغلبوا مائتين } فلما خفف الله عنهم من العدد ، نقص من الصبر بقدر ما خفف من العدد رواه أبو داود .

                                                                                                                                            وقال ابن عباس من فر من اثنين ، فقد فر ، ومن فر من ثلاثة فما فر الثاني ، أن لا يقصد بفراره التحيز إلى فئة ، ولا التحرف لقتال ، فإن قصد أحد هذين ، فهو مباح له ، لأن الله تعالى قال : { إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة } .

                                                                                                                                            ومعنى التحرف للقتال ، أن ينحاز إلى موضع يكون القتال فيه أمكن ، مثل أن ينحاز من مواجهة الشمس ، أو الريح إلى استدبارهما أو من نزلة إلى علو ، أو من معطشة إلى موضع ماء ، أو يفر بين أيديهم لتنتقض صفوفهم ، أو تنفرد خيلهم من رجالتهم ، أو ليجد فيهم فرصة ، أو ليستند إلى جبل ، ونحو ذلك مما جرت به عادة أهل الحرب .

                                                                                                                                            وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يوما في خطبته إذ قال : يا سارية بن زنيم ، الجبل ، ظلم الذئب من استرعاه الغنم . فأنكرها الناس فقال علي رضي الله عنه : دعوه . فلما نزل سألوه عما قال ، فلم يعترف به ، وكان قد بعث سارية إلى ناحية العراق لغزوهم فلما قدم ذلك الجيش أخبروا أنهم لقوا عدوهم يوم جمعة ، فظهر عليهم ، فسمعوا صوت عمر فتحيزوا إلى الجبل ، فنجوا من عدوهم فانتصروا عليهم وأما التحيز إلى فئة ، فهو أن يصير إلى فئة من المسلمين ، ليكون معهم ، فيقوى بهم على عدوهم وسواء بعدت المسافة أو قربت .

                                                                                                                                            قال القاضي : لو كانت الفئة بخراسان . والفئة بالحجاز ، جاز التحيز إليها ونحوه ذكر الشافعي لأن ابن عمر روى ، { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إني فئة لكم وكانوا بمكان بعيد منه } وقال عمر أنا فئة كل مسلم . وكان بالمدينة وجيوشه بمصر والشام والعراق وخراسان رواهما سعيد .

                                                                                                                                            وقال عمر رحم الله أبا عبيدة لو كان تحيز إلي لكنت له فئة وإذا خشي الأسر فالأولى له أن يقاتل حتى يقتل ، ولا يسلم نفسه للأسر ، لأنه يفوز بثواب الدرجة الرفيعة ، ويسلم من تحكم الكفار عليه بالتعذيب والاستخدام والفتنة .

                                                                                                                                            وإن استأسر جاز لما روى أبو هريرة { أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عشرة عينا ، وأمر عليهم عاصم بن ثابت ، فنفرت إليهم هذيل بقريب من مائة رجل رام ، فلما أحس بهم عاصم وأصحابه ، لجئوا إلى فدد فقالوا لهم : انزلوا فأعطونا ما بأيديكم ، ولكم العهد والميثاق أن لا نقتل منكم أحدا فقال عاصم : . أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر فرموهم بالنبل ، فقتلوا عاصما في سبعة معه ، ونزل إليهم ثلاثة على العهد والميثاق ، منهم خبيب وزيد بن الدثنة ، فلما استمكنوا منهم ، أطلقوا أوتار قسيهم ، فربطوهم بها } متفق عليه فعاصم أخذ بالعزيمة ، وخبيب وزيد أخذا بالرخصة ، وكلهم محمود غير مذموم ولا ملوم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية