الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 222 ] المسألة ] السادسة

                                                      في أن المفهوم هل له عموم أم لا ؟ وجهان لأصحابنا ، وحكى الأستاذ أبو منصور أنه عام ، فقال : قال أصحابنا : العموم يكون في الألفاظ والمعاني ودلائل الألفاظ من مفهوم أو دليل خطاب . ا هـ . وظاهر إيراد الأكثرين منهم الشيخ أبو إسحاق وغيره أنه ليس بعام ، لأنهم جعلوا العموم من صفات النطق ، وهو اختيار القاضي أبي بكر والغزالي ولهذا منعا تخصيصه لأن التخصيص لا يكون إلا للعام ، وهذا بناء منهم أن دلالة المفهوم قياسية لا لفظية وهو الصحيح كما سيأتي إن شاء الله تعالى . فإن قلنا : إنها لفظية فلا ينبغي أن يقع الخلاف في عمومه ، والعجب أن الغزالي من القائلين بأنها لفظية ، وهنا نفى العموم ، وأشار إلى بناء هذه المسألة على أن العموم من عوارض الألفاظ أو المعاني ، فقال : من يقول بالمفهوم قد يظن أن له عموما ، ويتمسك به ، ثم رده بأن العموم من عوارض الألفاظ ، والمفهوم ليست دلالته لفظية ، فإذا قال : في سائمة الغنم الزكاة فنفي الزكاة عن المعلوفة ليس بلفظ حتى يعم أو يخص ، ورد ذلك [ ص: 223 ] صاحب " المحصول " وقال : إن كنت لا تطلق عليه لفظ العام فلك ذلك ، وإن عنيت به أنه لا يقتضي انتفاء الحكم في جملة صور انتفاء الصفة فذلك من تقاريع كون المفهوم حجة ، ومتى جعلته حجة لزم انتفاء الحكم في جملة صورة انتفاء الصفة وإلا لم يكن للتخصيص فائدة .

                                                      قال القرافي : والظاهر من حال الغزالي أنه إنما خالف في التسمية ، لأن لفظ العموم إنما وضع للفظ لا للمعنى ، وأما عموم النفي في المنطوق فهو من القائلين به ، لأنه من القائلين بأنه حجة .

                                                      وقال ابن الحاجب : إنما أراد الغزالي أن العموم لم يثبت بالمنطوق به فقط ، بل بواسطته ، وهذا مما لا خلاف فيه ، وقال الخلاف لا يتحقق في هذه المسألة .

                                                      وقال : الشيخ في " شرح الإلمام " لقائل أن يقول : إن الحال مختلف ، فإن كان محل النطق إثبات ، فالحكم منتف في جملة صورة المخالفة ، وإن كان نفيا لم يلزم أن يثبت الحكم ، لأنه إذا تخلف النطق إثباتا لزم نفي الحكم إذا انتفى عن كل أفراد المخالفة لأنه إما أن يدل على تناول الحكم لكل فرد من أفراد المخالفة أو لا ، فإن دل فهو للأفراد . وإلا فهو دال حينئذ على نفي الحكم عن مسمى المخالف ، ولزم انتفاؤه عن كل فرد ضرورة ، وأن ما سلب عن الاسم مسلوب عن جملة أفراده ، وهذا كتعليق الوجوب بسائمة الغنم ، فإن كان محل النطق إثباتا فيقتضي نفي وجوب الزكاة عن المعلوفة ، وإن [ ص: 224 ] كان بصفة فذاك وإلا فهو سلب عن مسمى المعلوف ، فيلزم انتفاء الوجوب عن كل أفراد المعلوفة لما بيناه من أن المسلوب عن الأعم مسلوب عن كل أفراده . وأما إن كان محل النطق نفيا كقوله : { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم } ، فإنه يقتضي انتفاء الحكم عن المخالف ، وهو النفي ، فيكون الثابت للمخالف إثباتا ، فإن مطلق الحكم في السوم لا يلزم منه العموم ، كما أن العموم له صيغ مخصوصة لا كل صيغة ، فإذا كان بعض الألفاظ المنطوق بها لا يدل على العموم إذا كانت في جانب الإضافة ، فما ظنك بما لا لفظ فيه أصلا ؟ ومن ادعى أن مقتضى المفهوم أن يدل على العموم في مثل هذا ، احتاج إلى دليل .

                                                      وقول الإمام : ومتى جعلته حجة لزم انتفاء الحكم عن جملة صور انتفاء الصفة ، وإلا لم يكن للتخصيص فائدة . ممنوع ، لأنا إذا علقنا الحكم بالمسمى المطلق كانت فائدة المفهوم حاصلة في بعض الصور ضرورة ، فلا يخلو المفهوم من فائدة ، وفي مثل هذا يتوجه كلام الغزالي ، قال : فهذه مباحثه ينظر فيها ، ثم بعد ذلك تقول : فقد نأخذ عموم الأحكام في أفراد المخالف من أمر خارج عن دلالة المفهوم ، مثل أن يكون الإجماع قائما على عدم اقتران الأحكام ، أو يكون الحكم في المخالف ثابتا لمعنى مفهوم لا يختص ذلك المعنى ببعض الأفراد دون بعض .

                                                      وقال الإبياري في " شرح البرهان " : القائل بأن للمفهوم عموما مستنده أنه إذا قال : في سائمة الغنم الزكاة ، فقد تضمن ذلك قولا آخر ، وهو لا زكاة في المعلوفة وهو لو صرح بذلك لكان عاما ، والمقصود أنا [ ص: 225 ] إذا وجدنا صورة من صور المفهوم موافقة للمنطوق به ، فهل نقول : بطل المفهوم بالكلية حتى لا يتمسك به في غير تلك الصورة ؟ أو نقول : نتمسك به فيما وراء ذلك ؟ هذا موضع نظر ، قال : والأشبه بناء ذلك على أن مستند المفهوم ماذا ؟ هل هو البحث عن فوائد التخصيص كما هو اختيار الشافعي ، فلا يصح أن يكون له عموم ؟ وإن قلنا : استناده إلى عرف لغوي فصحيح .

                                                      وخرج لنا من كلامه وكلام الشيخ أن الخلاف معنوي ، وليس الخلاف لفظيا كما زعموا ، وفائدة أخرى ذكرها الشيخ : وهي أن خلاف أصحابنا في الماء النجس إذا كوثر بماء ، ولم يبلغ قلتين ، هل يطهر ؟ ينبني على ذلك ، فإن قلنا : له عموم ، لم يطهر ، وهو الصحيح ، ووجه البناء أن قوله عليه السلام : { إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس } دل بمفهومه على أن ما دونهما يتنجس بملاقاة النجاسة سواء تغير أم لا ، كوثر ولم يبلغهما أم لم يكاثر ، وإن قلنا : لا عموم للمفهوم لم يقتض الحديث النجاسة في هذه الصورة ، وكذلك الماء القليل الجاري إذا وقعت فيه نجاسة ، ولم يتغير ، والجديد ينجس والقديم لا ، فيبنى على ما ذكرنا .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية