الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
النهي عن الجلوس على القبور والصلاة عندها وإليها

وعن أبي مرثد الغنوي، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها رواه مسلم. النهي عن الجلوس عليها؛ لكون فيه استخفافا، والنهي عن الصلاة إليها، لكون فيه تعظيما بليغا.

ويؤيده حديث أبي هريرة مرفوعا: لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر رواه مسلم.

[ ص: 575 ] وهذا يدل على أن المراد بالجلوس على القبور، هو الجلوس المعتاد في المجالس. وقال بعضهم: المراد به: البراز عليها، والأول أظهر، والثاني أشد في الاستخفاف.

ويزيده إيضاحا حديث عمرو بن حزم، قال: رآني النبي -صلى الله عليه وسلم- متكئا على قبر، فقال: لا تؤذوا صاحب هذا القبر، أو لا تؤذه رواه أحمد. وفي حديث جابر: نهى أن توطأ. رواه الترمذي، والمعنى: توطأ بالأرجل والنعال. قال بعضهم: يستحب أن يمشي في القبور حافيا، كأنه أخذ ذلك من لفظ: «توطأ»، والله أعلم.

وعن علي -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جنازة، فقال: «أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنا إلا كسره، ولا قبرا إلا سواه، ولا صورة إلا لطخها؟»، فقال رجل: أنا يا رسول الله، فانطلق فهاب أهل المدينة، فرجع، فقال علي: أنا أنطلق يا رسول الله، فانطلق ثم رجع، فقال: يا رسول الله! لم أدع بها وثنا إلا كسرته، ولا قبرا إلا سويته، ولا صورة إلا لطختها، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من عاد بصنيعة شيء من هذا، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم رواه أحمد في «المسند».

فيه: بيان حكم الوثن، والقبر، والصورة، وقرنها في الحكم، وحكم بالعائد إليها بالكفر، وهذا الوعيد لا يقادر قدره، ولا يبلغ مداه. وفيه فضيلة علي -عليه السلام- ويدخل فيها كل من فعل مثل فعله في هذا الكسر والتسوية واللطخ -إن شاء الله تعالى. وإنما أمره -صلى الله عليه وسلم- بذلك سدا لذريعة الشرك بالله؛ فإن الشرك إنما دخل في الأمم الخالية وهذه الأمة من هذا الباب، وعبدت لأجله القبور والمقبور، وعظمت الصور والتماثيل، وهي الأصنام والأوثان، والأمر بالتسوية قاض بمنع التسليم.

[ ص: 576 ] ولا يعارضه ما رواه البخاري عن سفيان التمار -من كبار أتباع التابعين-: أنه رأى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- مسنما؛ لأن ما في حديث الباب هو قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مخاطبة الأمة اهتماما بشأنه، وهذا الذي رآه سفيان فعل بعض أمته بقبره الشريف، ولا حجة في قولهم، فضلا عن فعلهم، والقول المرفوع مقدم على الفعل الموقوف، ويؤيده الحديث الآتي.

وعن أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، «ألا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته؟ رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي . أي: قبرا عاليا إلا جعلته مسوى مع التراب، حتى لا يبقى له سنام ولا رفعة وعلو أصلا.

قال القاضي العلامة الرباني محمد بن علي الشوكاني -رحمه الله- في «شرح الصدور بتحريم رفع القبور»: اعلم أنه قد اتفق الناس، سابقهم ولاحقهم، وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة -رضي الله عنهم- إلى هذا الوقت: أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها، واشتد وعيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لفاعلها، كما يأتي بيانه، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين أجمعين.

لكنه وقع لبعضهم مقالة تدل على أنه لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء والملوك، ولم يقل بذلك غيره، ولا روي عن أحد سواه. ودليله الذي استدل به هو استعمال المسلمين مع عدم النكير، وهذا خلاف واقع بينه وبين سائر العلماء من الصحابة والتابعين، وأهل المذاهب الأربعة وغيرها، ومن جميع المجتهدين، أولهم وآخرهم. ولا يعترض هذا بحكاية من حكى قول ذلك للبعض، ممن جاء بعده من المؤلفين، فإن مجرد حكاية القول لا يدل على أن الحاكي يختاره، ويذهب إليه. [ ص: 577 ] فإن وجدت قائلا من بعده من أهل العلم يقول بقوله هذا، ويرجحه، فإن كان مجتهدا، كان قائلا بما قاله ذلك البعض، ذاهبا إلى ما ذهب إليه بذلك الدليل الذي استدل به. وإن كان غير مجتهد، فلا اعتبار بموافقته؛ لأنها إنما تعتبر في أقوال المجتهدين، لا أقوال المقلدين. فإذا أردت أن تعرف: هل الحق ما قاله ذلك البعض، أو ما قاله غيره من أهل العلم؟ فالواجب عليك رد هذا الاختلاف إلى ما أمرنا الله بالرد إليه، وهو كتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

فإن قلت: بين لي العمل في هذا الرد حتى تتم الفائدة، ويتضح الحق من غيره، والمصيب من المخطئ في هذه المسألة. قلت: افتح لما [أقول] لك وله سمعا، واشحذ له فهما، وأرهف له ذهنا، وها أنا أوضح لك الكيفية المطلوبة، وأبين لك ما لا يبقى عندك بعده ريب، لا يصاحب ذهنك وفهمك عنده لبس، فأقول: قال الله سبحانه: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، فهذه الآية فيها الإيجاب على العباد بالائتمار لما أمر به، والانتهاء عما نهى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتركه.

وقال الله تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ، ففي هذه الآية تعليق محبة الله الواجبة على كل عبد من عباده باتباع رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأن ذلك هو المعيار الذي يعرف به محبة العبد لربه على الوجه المعتبر، وأنه إيتاء السبب الذي يستحق به العبد أن يحبه الله.

وقال تعالى: من يطع الرسول فقد أطاع الله ، ففي هذه الآية أن إطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إطاعة لله.

[ ص: 578 ] وقال تعالى: ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم ، الآية. فأوجب هذه السعادة لمن أطاع الله ورسوله، وهي أن يكون مع هؤلاء الذين هم أرفع العباد درجة، وأعلاهم منزلة.

وقال تعالى: ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ، وفيه إيجاب الجنة للمطيع المتبع لهما، وإيجاب النار للعاصي المتجاوز عن الحدود، والواقع في البدع المردد عليها.

وقال سبحانه: ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون ، فيه التسجيل بالفوز للطائع الخاشي المتقي من الله، ومفهومه المخالف هلاك غير المتصف بهذه الصفات.

وقال تعالى: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ، قرن فيه طاعته بطاعة رسوله، وأنزل على رسوله أن يقول: فاتقوا الله وأطيعون . والآيات الدالة على هذا المعنى في الجملة أكثر من ثلاثين آية.

والمستفاد من جميع ما ذكرناه: أن ما أمر الله به رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ونهى عنه، كان الأخذ به واتباعه واجبا بأمر الله، وكان الطاعة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك طاعة الله، وكان الأمر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الله. وسنوضح لك ما صح عنه -صلى الله عليه وسلم- في حديث النهي عن رفع القبور والبناء عليها، ووجوب تسويتها، وهدم ما ارتفع منها. ولكنا هنا نبتدئ بذكر أشياء في حكم التوطئة والتمهيد لذلك، ثم ننتهي إلى ذكر ما هو المطلوب، حتى يعلم من اطلع على هذا البحث أنه إذا وقع الرد على ما قاله ذلك البعض وما قال غيره في القباب والمشاهد إلى ما أمر الله بالرد إليه، وهو كتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، كان في ذلك ما يكفي ويشفي، ويقنع ويغني ذكر بعضه، فضلا عن ذكر جميعه، وعند ذلك يتبين لكل من له فهم، ما في رفع [ ص: 579 ] القبور من الفتنة العظيمة لهذه الأمة، ومن المكيدة البالغة التي كادهم الشيطان بها، وقد كاد بها من كان قبلهم من الأمم السالفة، كما حكى الله سبحانه ذلك في كتابه العزيز، وكان أول ذلك قوم نوح.

قال سبحانه: قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا ، وكانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون، ذهب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وهم يسقون المطر، فعبدوهم، ثم عبدتهم العرب بعد ذلك. وقد حكي معنى هذا في «صحيح البخاري » عن ابن عباس - رضي الله عنه.

وقال قوم من السلف: إن هؤلاء كانوا قوما صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا، عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد، فعبدوهم.

ويؤيد هذا ما ثبت في «الصحيحين»، وغيرهما، عن عائشة : أن أم سلمة ذكرت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح، أو الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله». وفي رواية عنها بلفظ: قالت: لما اشتكى النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر بعض نسائه كنيسة يقال لها: مارية، وكانت أم سلمة وأم حبيبة أتتا أرض الحبشة، فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، فرفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأسه، فقال: «أولئك إذا مات فيهم [ ص: 580 ] الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجدا، ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار خلق الله متفق عليه.

وأخرج ابن جرير في تفسير قوله تعالى: أفرأيتم اللات والعزى ، قال: كان اللات يلت لهم السويق، فعكفوا على قبره. وتقدم حديث جندب عند مسلم، وفيه: إني أنهاكم عن ذلك»، ثم ذكر حديث اللعن على اليهود والنصارى على اتخاذهم القبور مساجد، وهو من حديث عائشة، وذكر الأحاديث المتقدمة عن أبي هريرة، وابن عباس، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، في لعن الزائرات، وحديث أبي الهياج الأسدي، وقال: وفي «صحيح مسلم» أيضا عن ثمامة بن شفي نحو ذلك. قال: وفي هذا أعظم دلالة على أن تسوية كل قبر مشرف -حيث يرتفع زيادة على القدر المشروع- واجبة متحتمة. قال: ومن إشراف القبور: أن يرفع سمكها، أو يجعل عليها القباب والمساجد، فإن ذلك من المنهي عنه بلا شك ولا شبهة، ولهذا بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- لهدمها أمير المؤمنين، ثم إنه -رضي الله عنه- بعث لهدمها أبا الهياج الأسدي في أيام خلافته.

التالي السابق


الخدمات العلمية