الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الجملة الثانية

[ في أحكام اللقطة ]

وأما حكم التعريف ، فاتفق العلماء على تعريف ما كان منها له بال سنة ما لم تكن من الغنم . واختلفوا في حكمها بعد السنة ، فاتفق فقهاء الأمصار مالك والثوري ، والأوزاعي ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وأبو عبيد ، وأبو ثور إذا انقضت كان له أن يأكلها إن كان فقيرا ، أو يتصدق بها إن كان غنيا ، فإن جاء صاحبها كان مخيرا بين أن يجيز الصدقة فينزل على ثوابها أو يضمنه إياها .

واختلفوا في الغني هل له أن يأكلها أو ينفقها بعد الحول ؟ فقال مالك والشافعي : له ذلك ، وقال أبو حنيفة : ليس له إلا أن يتصدق بها ، وروي مثل قوله عن علي وابن عباس وجماعة من التابعين . وقال الأوزاعي : إن كان مالا كثيرا جعله في بيت المال ، وروي مثل قول مالك والشافعي عن عمر وابن مسعود وابن عمر وعائشة .

وكلهم متفقون على أنه إن أكلها ضمنها لصاحبها إلا أهل الظاهر .

واستدل مالك والشافعي بقوله - عليه الصلاة والسلام - : " فشأنك بها " ولم يفرق بين غني وفقير . ومن الحجة لهما ما رواه البخاري والترمذي عن سويد بن غفلة قال : " لقيت أويس بن كعب فقال : وجدت صرة فيها مائة دينار ، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : عرفها حولا ، فعرفتها فلم أجد ، ثم أتيته ثلاثا فقال : احفظ وعاءها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها " وخرج الترمذي وأبو داود " فاستنفقها " .

فسبب الخلاف معارضة ظاهر لفظ حديث اللقطة لأصل الشرع ، وهو أنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه .

فمن غلب هذا الأصل على ظاهر الحديث ، وهو قوله بعد التعريف " فشأنك بها " قال : لا يجوز فيها تصرف إلا بالصدقة فقط على أن يضمن إن لم يجز صاحب اللقطة الصدقة ، ومن غلب ظاهر الحديث [ ص: 645 ] على هذا الأصل ورأى أنه مستثنى منه ، قال : تحل له بعد العام وهي مال من ماله لا يضمنها إن جاء صاحبها . ومن توسط قال : يتصرف بعد العام فيها وإن كانت عينا على جهة الضمان .

وأما حكم دفع اللقطة لمن ادعاها ، فاتفقوا على أنها لا تدفع إليه إذا لم يعرف العفاص ولا الوكاء ، واختلفوا إذا عرف ذلك هل يحتاج مع ذلك إلى بينة أم لا ؟ فقال مالك : يستحق بالعلامة ولا يحتاج إلى بينة ، وقال أبو حنيفة ، والشافعي : لا يستحق إلا ببينة .

وسبب الخلاف معارضة الأصل في اشتراط الشهادة في صحة الدعوى لظاهر هذا الحديث .

فمن غلب الأصل قال : لا بد من البينة ، ومن غلب ظاهر الحديث ، قال : لا يحتاج إلى بينة .

وإنما اشترط الشهادة في ذلك الشافعي ، وأبو حنيفة لأن قوله - عليه الصلاة والسلام - " اعرف عفاصها ووكاءها ; فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها " يحتمل أن يكون إنما أمره بمعرفة العفاص والوكاء لئلا تختلط عنده بغيرها ، ويحتمل أن يكون إنما أمره بذلك ليدفعها لصاحبها بالعفاص والوكاء ، فلما وقع الاحتمال وجب الرجوع إلى الأصل ، فإن الأصول لا تعارض بالاحتمالات المخالفة لها إلا أن تصح الزيادة التي نذكرها بعد .

وعند مالك وأصحابه أن على صاحب اللقطة أن يصف مع العفاص والوكاء صفة الدنانير والعدد ، قالوا : وذلك موجود في بعض روايات الحديث ، ولفظه : " فإن جاء صاحبها ووصف عفاصها ووكاءها وعددها فادفعها إليه " قالوا : ولكن لا يضره الجهل بالعدد إذا عرف العفاص والوكاء ، وكذلك إن زاد فيه .

واختلفوا إن نقص من العدد على قولين ، وكذلك اختلفوا إذا جهل الصفة وجاء بالعفاص والوكاء . وأما إذا غلط فيها فلا شيء له . وأما إذا عرف إحدى العلامتين اللتين وقع النص عليهما وجهل الأخرى فقيل إنه لا شيء له إلا بمعرفتهما جميعا ، وقيل يدفع إليه بعد الاستبراء ، وقيل إن ادعى الجهالة استبرئ ، وإن غلط لم تدفع إليه .

واختلف المذهب إذا أتى بالعلامة المستحقة هل يدفع إليه بيمين أو بغير يمين ؟ فقال ابن القاسم بغير يمين : وقال أشهب : بيمين .

وأما ضالة الغنم ، فإن العلماء اتفقوا على أن لواجد ضالة الغنم في المكان القفر البعيد من العمران أن يأكلها لقوله - عليه الصلاة والسلام - في الشاة : " هي لك أو لأخيك أو للذئب " واختلفوا هل يضمن قيمتها لصاحبها أم لا ؟ فقال جمهور العلماء إنه يضمن قيمتها ، وقال مالك في أشهر الأقاويل عنه : إنه لا يضمن .

وسبب الخلاف معارضة الظاهر كما قلنا للأصل المعلوم من الشريعة ، إلا أن مالكا هنا غلب الظاهر فجرى على حكم الظاهر ، ولم يجز كذلك التصرف فيما وجب تعريفه بعد العام لقوة اللفظ ههنا ، وعنه رواية أخرى أنه يضمن ، وكذلك كل طعام لا يبقى إذا خشي عليه التلف إن تركه .

وتحصيل مذهب مالك عند أصحابه في ذلك أنها على ثلاثة أقسام :

1 - قسم يبقى في يد ملتقطه ويخشى عليه من التلف إن تركه ، كالعين والعروض .

2 - وقسم لا يبقى في يد ملتقطه ويخشى عليه من التلف إن ترك كالشاة في القفر ، والطعام الذي يسرع إليه الفساد .

[ ص: 646 ] 3 - وقسم لا يخشى عليه من التلف .

فأما القسم الأول ، وهو ما يبقى في يد ملتقطه ويخشى عليه التلف ، فإنه ينقسم ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يكون يسيرا لا بال له ولا قدر لقيمته ويعلم أن صاحبه لا يطلبه لتفاهته ، فهذا لا يعرف عنده وهو لمن وجده . والأصل في ذلك ما روي " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بتمرة في الطريق فقال : لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها " ، ولم يذكر فيها تعريفا ، وهذا مثل العصا والسوط ، وإن كان أشهب قد استحسن تعريف ذلك .

والثاني : أن يكون يسيرا إلا أن له قدرا ومنفعة ، فهذا لا اختلاف في المذهب في تعريفه ، واختلفوا في قدر ما يعرف ، فقيل سنة ، وقيل أياما .

وأما الثالث فهو أن يكون كثيرا أو له قدر ، فهذا لا اختلاف في وجوب تعريفه حولا . وأما القسم الثاني : وهو ما لا يبقى بيد ملتقطه ويخشى عليه التلف ، فإن هذا يأكله كان غنيا أو فقيرا ، وهل يضمن ؟ فيه روايتان كما قلنا : الأشهر أن لا ضمان . واختلفوا إن وجد ما يسرع إليه الفساد في الحاضرة ، فقيل لا ضمان عليه ، وقيل عليه الضمان ، وقيل بالفرق بين أن يتصدق به فلا يضمن ، أو يأكله فيضمن .

وأما القسم الثالث : فهو كالإبل ، أعني أن الاختيار عنده فيه الترك للنص الوارد في ذلك ، فإن أخذها وجب تعريفها ، والاختيار تركها ، وقيل في المذهب هو عام في جميع الأزمنة ، وقيل إنما هو في زمان العدل ، وأن الأفضل في زمان غير العدل التقاطها .

وأما ضمانها في الذي تعرف فيه ، فإن العلماء اتفقوا على أن من التقطها وأشهد على التقاطها فهلكت عنده أنه غير ضامن ، واختلفوا إذا لم يشهد ، فقال مالك ، والشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد بن الحسن : لا ضمان عليه إن لم يضيع وإن لم يشهد ، وقال أبو حنيفة ، وزفر : يضمنها إن هلكت ولم يشهد .

استدل مالك والشافعي بأن اللقطة وديعة فلا ينقلها ترك الإشهاد من الأمانة إلى الضمان ، قالوا : وهي وديعة بما جاء من حديث سليمان بن بلال وغيره أنه قال : إن جاء صاحبها وإلا فلتكن وديعة عندك . واستدل أبو حنيفة وزفر بحديث مطرف بن الشخير ، عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من التقط لقطة فليشهد ذوي عدل عليها ولا يكتم ولا يعنت ، فإن جاء صاحبها فهو أحق بها ، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء " .

وتحصيل المذهب في ذلك أن واجد اللقطة عند مالك لا يخلو التقاطه لها من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يأخذها على جهة الاغتيال لها .

والثاني : أن يأخذها على جهة الالتقاط .

والثالث : أن يأخذها لا على جهة الالتقاط ولا على جهة الاغتيال .

فإن أخذها على جهة الالتقاط فهي أمانة عنده عليه حفظها وتعريفها ، فإن ردها بعد أن التقطها ، فقال ابن القاسم : يضمن ، وقال أشهب : لا يضمن إذا ردها في موضعها ، فإن ردها في غير موضعها ضمن كالوديعة ، والقول قوله في تلفها دون يمين إلا أن يتهم .

[ ص: 647 ] وأما إذا قبضها مغتالا لها فهو ضامن لها ، ولكن لا يعرف هذا الوجه إلا من قبله .

وأما الوجه الثالث ، فهو مثل أن يجد ثوبا فيأخذه ، وهو يظنه لقوم بين يديه ليسألهم عنه ، فهذا إن لم يعرفوه ولا ادعوه كان له أن يرده حيث وجده ولا ضمان عليه باتفاق عند أصحاب مالك .

وتتعلق بهذا الباب مسألة اختلف العلماء فيها ، وهو العبد يستهلك اللقطة ، فقال مالك : إنها في رقبته إما أن يسلمه سيده فيها ، وإما أن يفديه بقيمتها ، هذا إذا كان استهلاكه قبل الحول ، فإن استهلكها بعد الحول كانت دينا عليه ، ولم تكن في رقبته . وقال الشافعي : إن علم بذلك السيد فهو الضامن ، وإن لم يعلم بها السيد كانت في رقبة العبد .

واختلفوا هل يرجع الملتقط بما أنفق على اللقطة على صاحبها أم لا ؟ فقال الجمهور : ملتقط اللقطة متطوع بحفظها فلا يرجع بشيء من ذلك على صاحب اللقطة . وقال الكوفيون : لا يرجع بما أنفق إلا أن تكون النفقة عن إذن الحاكم ، وهذه المسألة هي من أحكام الالتقاط ، وهذا القدر كاف بحسب غرضنا في هذا الباب .

التالي السابق


الخدمات العلمية