الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 362 ] قوله في كتاب أشعيا أيضا : عبدي وخيرتي ورضى نفسي ، أفيض عليه روحي ، أو قال : أنزل عليه روحي ، فينظر في الأمم عدلي ، ويوصي الأمم بالوصايا ، لا يضحك ، ولا يسمع صوته ، يفتح العيون العمي والعور ، ويسمع الآذان الصم ، ويحيي القلوب ، وما أعطيه لا أعطيه غيره ، لا يضعف ولا يغلب ، ولا يميل إلى اللهو ، ولا يسمع في الأسواق صوته ، ركن للمتواضعين ، وهو نور الله الذي لا يطفأ ، ولا يخصم ، حتى تثبت في الأرض حجتي ، وتنقطع به المعذرة .

فمن وجد بهذا الوصف غير محمد صلى الله عليه وسلم بن عبد الله ؟ فلو اجتمع أهل الأرض لم يقدروا أن يذكروا نبيا جمع هذه الأوصاف كلها ، وهي باقية في أمته إلى يوم القيامة ، ولو بحثوا عن غيره لم يجدوا إلى ذلك سبيلا .

فقوله عبدي مطابق لقوله في القرآن وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ، وقوله تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، وقوله وأنه لما قام عبد الله يدعوه ، وقوله سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله . وقوله : وخيرتي ورضى نفسي ، مطابق [ ص: 363 ] لقوله صلى الله عليه وسلم : إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشا من كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفاني من بني هاشم .

وقوله : لا يضحك ، مطابق لوصفة الذي كان عليه صلى الله عليه وسلم ، قالت عائشة رضي الله عنها : ما رؤي رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا حتى تبدو لهواته إنما كان يتبسم تبسما، وهذا لأن كثرة الضحك من خفة الروح ، ونقصان العقل ، بخلاف التبسم فإنه من حسن الخلق ، وكمال الإدراك . وأما صفته صلى الله عليه وسلم في بعض الكتب المتقدمة بأنه الضحوك القتال ، فالمراد به أنه لا يمنعه ضحكه وحسن خلقه عن القتل إذا كان حبا لله وحقا له ، ولا يمنعه ذلك عن تبسمه في موضعه ، فيعطي كل حال ما يليق بتلك الحال ، فترك الضحك بالكلية من الكبر والتجبر وسوء الخلق ، وكثرته من الخفة والطيش ، والاعتدال بين ذلك غير منكر .

وقوله : أنزل عليه روحي ، مطابق لقوله تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ، وقوله تعالى : يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق ، فسمى الوحي روحا ، لأن حياة القلوب والأرواح به ، كما أن حياة الأبدان بالأرواح .

وقوله : فينظر في الأمم عدلي ، مطابق لقوله تعالى : فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم ، وقوله عن أهل الكتاب : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط [ ص: 364 ] وقوله : يوصى الأمم بالوصايا ، مطابق لقوله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه .

وقوله في سورة الأنعام : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا إلى قوله ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ، ثم قال : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده إلى قوله : ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ، ثم قال : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون .

ووصاياه صلى الله عليه وسلم هي عهوده إلى أمته بتقوى الله تعالى وعبادته وحده لا شريك له ، والتمسك بما بعثه الله به من الهدى ودين الحق ، والإيمان بالله وملائكته ، وكتبه ورسله ولقائه .

وقوله : ولا يسمع صوته ، يعني ليس بصخاب له فديد كحال من ليس له علم ولا وقار . وقوله : يفتح العيون العمي والآذان الصم والقلوب ، إشارة إلى أن تكميل مراتب العلم والهدى الحاصل بدعوته في القلوب والأبصار والأسماع ، فباينوا بذلك أحوال الصم البكم العمي الذين لهم قلوب لا يعقلون بها ، فإن الهدى يصل إلى العبد من هذه الأبواب الثلاثة ، وهي مغلقة عن كل أحد لا تفتح إلا على أيدي الرسل ، ففتح الله بمحمد صلى الله عليه وسلم الأعين العمي ، فأبصرت بالله ، والآذان الصم ، فسمعت عن الله ، والقلوب الغلف ، فعقلت عن الله ، فانقادت لطاعته عقلا وقولا وعملا ، وسلكت سبل مرضاته ذللا .

[ ص: 365 ] وقوله : ما أعطيه فلا أعطي غيره ، مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم : أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء قبلي .

ولقول الملائكة لما ضربوا له المثل : لقد أعطي هذا النبي ما لم يعط نبي قبله ، إن عينيه تنامان وقلبه يقظان .

فمن ذلك أنه بعث إلى الخلق عامة ، وختم به ديوان الأنبياء ، ونزل عليه القرآن الذي لم ينزل من السماء كتاب يشبهه ، ولا يقاربه ، وأنزل على قلبه محفوظا متلوا ، وضمن له حفظه إلى أن يأتي الله بأمره ، وأوتي جوامع الكلم ، ونصر بالرعب في قلوب أعدائه وبينهما مسيرة شهر ، وجعلت صفوف أمته في الصلاة على مثال صفوف الملائكة في السماء ، وجعلت له ولأمته الأرض مسجدا وطهورا ، وأسري به إلى أن جاوز السماوات السبع ورأى ما لم يره بشر قبله ، ورفع على سائر النبيين ، وجعل سيد ولد آدم ، وانتشرت دعوته في مشارق الأرض ومغاربها ، واتبعه على دينه أتباع أكثر من أتباع سائر النبيين من عهد نوح إلى المسيح ، فأمته ثلثا أهل الجنة ، وخصه بالوسيلة ، وهي أعلى درجة في الجنة ، وبالمقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون ، وبالشفاعة العظمى التي يتأخر عنها آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، وأعز الله به الحق وأهله عزا لم يعزه بأحد من قبله ، وأذل به الباطل وحزبه ذلا لم يحصل بأحد قبله ، وآتاه من العلم والشجاعة والسماحة والصبر والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والعبادات القلبية [ ص: 366 ] والمعارف الإلهية ما لم يؤته نبي قبله ، وجعلت الحسنة منه ومن أمته بعشر حسنات مثلها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، وتجاوز له عن أمته الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه ، وصلى الله عليه هو وجميع ملائكته ، وأمر عباده المؤمنين كلهم أن يصلوا عليه ويسلموا تسليما ، وقرن اسمه باسمه فإذا ذكر الله ذكر معه ، كما في الخطبة والتشهد والأذان ، فلا يصح لأحد أذان ولا خطبة ولا صلاة حتى يشهد أنه عبده ورسوله ، ولم يجعل معه أمرا يطاع ، لا ممن قبله ولا ممن هو كائن بعده إلى أن تطوى الدنيا ومن عليها ، وأغلق أبواب الجنة إلا عمن سلك خلفه ، واقتدى به ، وجعل لواء الحمد بيده ، فآدم وجميع الأنبياء تحت لوائه يوم القيامة ، وجعله أول من تنشق عنه الأرض ، وأول شافع وأول مشفع ، وأول من يقرع باب الجنة ، وأول من يدخلها ، فلا يدخلها أحد من الأولين والآخرين إلا بشفاعته صلى الله عليه وسلم ، وأعطي من اليقين والإيمان والصبر والثبات والقوة في أمر الله تعالى ، والعزيمة على تنفيذ أوامره ، والرضا عنه ، والشكر له ، والتنوع في مرضاته ، وطاعته ظاهرا وباطنا ، سرا وعلانية ، في نفسه وفي الخلق ، ما لم يعطه نبي غيره . ومن عرف أحوال العالم ، وسير الأنبياء وأممهم ، تبين له أن الأمر فوق ذلك ، فإذا كان يوم القيامة ظهر للخلائق كلهم من ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر أنه يكون أبدا .

وقوله : ولا يضعف ولا يغلب ، هكذا حال صلى الله عليه وسلم ، ما ضعف في ذات الله قط ، ولا في حالة انفراده وقلة أتباعه ، وكثرة أعدائه ، واجتماع أهل الأرض على حربه ، بل هو صلى الله عليه وسلم أقوى الخلق وأثبتهم جأشا ، وأشجعهم قلبا ، حتى أنه يوم أحد قتل أصحابه وجرحوا ، وما ضعف ولا استكان ، بل خرج من الغد في طلب عدوه على شدة القرح ، حتى أرعب منه العدو ، وكر خاسئا على كثرة عددهم وعددهم وضعف أصحابه ، وكذلك يوم حنين ، أفرد عن [ ص: 367 ] الناس في نفر يسير دون العشرة ، والعدو قد أحاطوا به وهم ألوف مؤلفة ، فجعل يثب في العدو ويقول : أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ويتقدم إليهم ، وأخذ حفنة من التراب فرمى بها وجوههم فولوا منهزمين . ومن تأمل سيرته وحروبه علم أنه لم يطرق العالم أشجع منه ، ولا أثبت ولا أصبر ، وكان أصحابه مع أنهم أشجع الأمم إذا احمر البأس ، واشتد الحرب ، اتقوا به ، وتترسوا به ، فكان أقربهم إلى العدو ، وكان أشجعهم هو الذي يكون قريبا منه .

وقوله : ولا يميل إلى اللهو ، هكذا كانت سيرته صلى الله عليه وسلم ، أبعد الناس من اللهو واللعب ، بل أمره كله جد وحزم وعزم ، مجلسه مجلس حياء وكرم ، وعلم وإيمان ، ووقار وسكينة .

وقوله : ولا يسمع في الأسواق صوته ، أي ليس من الصخابين بالأسواق في طلب الدنيا ، ولا الحرص عليها ، كحال أهلها الطالبين لها .

وقوله : ركن للمتواضعين ، فإن من تأمل سيرته وجده أعظم الناس تواضعا للصغير والكبير ، والمسكين والأرملة ، والحر والعبد ، يجلس معهم على التراب ، ويجيب دعوتهم ، ويسمع كلامهم ، وينطلق مع أحدهم في حاجته ، ويخصف لأحدهم نعله ، ويخيط له ثوبه ، ويأخذ له حقه ممن لا يستطيع أن يطالبه به .

وقوله : وهو نور الله الذي لا يطفأ ولا يخصم حتى يثبت في الأرض حجتي وينقطع به العذر ، وهذا مطابق لحاله وأمره لما شهد به القرآن في غير موضع ، كقوله : يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ، يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون وقوله تعالى : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، وقوله تعالى : ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا وقوله تعالى : قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ، [ ص: 368 ] وقوله تعالى : فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ، ونظائره في القرآن كثيرة .

وقوله : حتى ينقطع به العذر . . . وتثبت به الحجة ، مطابق لقوله تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، وقوله تعالى : والمرسلات عرفا إلى قوله : فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا ، وقوله تعالى : ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين .

وقوله تعالى : أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة .

فالحجة إنما قامت على الخلق بالرسل ، وبهم انقطعت المعذرة ، فلا يمكن من بلغته دعوتهم أن يعتذر إلى الله يوم القيامة إذ ليس له عذر يقبل منه .

( فصل ) : وهذه البشارة مطابقة لما في صحيح البخاري أنه قيل لعبد الله بن عمرو : أخبرنا ببعض صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة ، فقال : إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق ، [ ص: 369 ] ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يجزي بالسيئة الحسنة ، ويعفو ويغفر ، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء ، فأفتح به أعينا عميا وآذانا صما ، وقلوبا غلفا : بأن يقولوا : لا إله إلا الله .

وقوله : إن هذا في التوراة ، لا يريد به التوراة المعنية التي هي كتاب موسى فقط ، فإن لفظ التوراة والإنجيل والزبور والقرآن يراد به الكتب المعنية تارة ، ويراد به الجنس تارة ، فيعبر بلفظ القرآن عن الزبور ، وبلفظ التوراة عن الإنجيل وعن القرآن أيضا .

وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : خفف على داود القرآن فكان ما بين أن يسرج دابته إلى أن يركبها يقرأ القرآن والمراد به قرآنه ، وهو الزبور .

وكذلك قوله في البشارة التي في التوراة : نبيا أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم ، أنزل عليه توراة مثل توراة موسى .

وكذلك في صفة أمته صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة : أناجيلهم في صدورهم . فقوله : أخبرني بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم : إما أن يريد التوراة المعينة ، وليست المبدلة التي بأيدي اليهود لعنهم الله ، أو جنس الكتب المتقدمة ، وعلى التقديرين فأجابه عبد الله بن عمرو بما هو في التوراة التي هي أتم من الكتاب المعين ، فإن هذا الذي ذكره ليس في التوراة المعينة فقط ، بل هو في كتاب أشعيا كما حكيناه عنه . وقد ترجموه أيضا بترجمة أخرى فيها بعض الزيادة : عبدي ورسولي الذي سرت به نفسي ، أنزل عليه وحيي ، فيظهر في الأمم عدلي ، ويوصيهم بالوصايا ، لا يضحك ، ولا يسمع صوته في الأسواق ، يفتح العيون العور ، والآذان الصم ، ويحيي القلوب الغلف ، وما أعطيه لا أعطيه أحدا ، [ ص: 370 ] يحمد الله حمدا جديدا يأتي من أقطار الأرض ، وتفرح البرية وسكانها ، يهللون بالله على كل شرف ، ويكبرونه على كل رابية ، لا يضعف ، ولا يغلب ، ولا يميل إلى الهوى ، مشفح ولا يذل الصالحين الذين هم كالقصبة الضعيفة ، بل يقوي الصديقين ، وهو ركن المتواضعين ، وهو نور الله الذي لا يطفأ ، أثر سلطانه على كتفيه .

وقوله : مشفح ، بالشين المعجمة والفاء المشددة بوزن مكرم ، وهي لفظة عبرانية ، مطابقة لاسم محمد معنى ولفظا ، مقاربا لمطابقة ( مؤد مؤد ) بل أشد مطابقة ، ولا يمكن العرب أن يتلفظوا بها بلفظ العبرانيين ، فإنها بين الحاء والهاء ، وفتحة الفاء بين الضمة والفتحة ، ولا يتريب عالم من علمائهم منصف أنها مطابقة لاسم محمد .

قال أبو محمد بن قتيبة : مشفح محمد بغير شك ، واعتباره أنهم يقولون ( شفحا لاها ) ، إذا أرادوا يقولوا الحمد لله ، وإذا كان الحمد شفحا فمشفح محمد بغير شك .

وقد قال لي ولغيري بعض من أسلم من علمائهم : إن " مئد مئد " هي محمد ، وهي بكسر الميم والهمزة ، وبعضهم يفتح الميم ويدنيها من الضمة ، قال : ولا يشك العلماء منهم بأنه محمد ، وإن سكتنا عن ذلك ، وضربنا عن هذا صفحا فمن هذا الذي انطبقت عليه وعلى أمته هذه الصفات سواه صلى الله عليه وسلم ؟ ! ومن هذا الذي أثر سلطانه وهو خاتم النبوة على كتفيه ، رآه الناس عيانا مثل زر الحجلة ؟ ! ! فماذا بعد الحق إلا الضلال ، وبعد البصيرة إلا العمى ، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .

فصفات هذا النبي ومخرجه ومبعثه وعلاماته وصفات أمته في كتبهم ، يقرءونها في كنائسهم ، ويدرسونها في مجالسهم ، لا ينكرها منهم عالم ، ولا يأباها جاهل ، ولكنهم يقولون : لم يظهر بعد ، وسيظهر ونتبعه .

قال ابن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ، فلما بعثه الله من العرب ، كفروا به وجحدوا نبوته ، وجحدوا ما كانوا يقولونه [ ص: 371 ] فيه ، فقال معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور ، وداود بن سلمة : يا معشر اليهود : اتقوا الله وأسلموا ، فقد كنتم تستفتحون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ونحن أهل شرك ، وتخبرونا أنه مبعوث ، وتصفونه بصفته ، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه ، وما هو الذي كنا نذكر لكم ، فأنزل الله تعالى : وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين .

وقال أبو العالية : كان اليهود إذا استنصروا بمحمد على مشركي العرب يقولون : اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا ، حتى يعذب المشركين ويقتلهم ، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ورأوا أنه من غيرهم ، كفروا به حسدا للعرب ، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات : فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين .

وقال ابن إسحاق : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ، عن رجال من قومه ، قالوا : ومما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله وهداه ، ما كنا نسمع من رجال يهود ، كنا أهل شرك أصحاب أوثان ، وكانوا أهل كتاب ، عندهم علم ليس عندنا ، فكانت لا تزال بيننا [ ص: 372 ] وبينهم شرور ، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون ، قالوا لنا : قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم ، فلما بعث الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله ، وعرفنا ما كانوا يتوعدونا به ، فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا به ، ففينا وفيهم نزلت هذه الآيات التي في البقرة : ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين .

التالي السابق


الخدمات العلمية