الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما ذكرت الصاعقة الناشئة غالبا من الغمام كان أنسب الأشياء إيلاؤها ذكر تظليل الغمام وناسب التحذير من نقمة الإحراق بالصاعقة والتذكير بنعمة الإيجاد من الموت الإتباع بذكر التنعيم في الإبقاء بالصيانة عن حر الظاهر بالشمس والباطن بالجوع .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحرالي وعطف تعالى على ذكر البعث ذكر حال من مثل أحوال أهل الجنة الذي ينالونه بعد البعث ، فكأن عامتهم الذين لم يموتوا إنما شركوا هؤلاء المبعوثين لكونهم كأنهم ماتوا بموتهم وبعثوا ببعثهم ، فذكر ظل الغمام وهو من أمر ما بعد البعث ، والأرزاق بغير كلفة وهو من حال ما بعد البعث وأفهم ذلك أمورا أخر في أحوالهم كما يقال : إن ملابسهم كانت تطول معهم كلما طالوا فكأنهم أخرجوا من أحوال أهل الدنيا بالجملة إلى شبه أحوال أهل الجنة في محل تيههم ومستحق منال العقوبة لهم ، كل ذلك إنعاما عليهم ، ثم لم يزيدوا مع [ ص: 386 ] ذلك إلا بعدا عن التبصرة في كل ما أبدي لهم من العجائب - حدث عن بني إسرائيل ولا حرج - فقال : وظللنا من الظلة وهو وقاية مما ينزل من سماء الموقي و عليكم الغمام من الغم وهو ما يغم النور أي يغطيه . [ ص: 387 ] انتهى . أي فعلنا ذلك لترفيه أجسامكم وترويح أرواحكم ، وعن مجاهد : إن الغمام أبرد من السحاب وأرق وأصفى وأنـزلنا عليكم المن قال الحرالي : هو ما جاء بغير كلفة ، الكمأة من المن . انتهى . والسلوى أي لطعامكم على أن المن من الغمام ، وحشر السلوى إليهم بالريح المثيرة له فنظمها به على غاية التناسب . قال الحرالي : والسلوى اسم صنف من الطير يقال هو السماني أو غيره . انتهى . وسيأتي إن شاء الله تعالى في الأعراف أنه غير السماني وأنهم خصوا به إيذانا بقساوة قلوبهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الخارقة قد كان صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم غنيين عنها بما كان النبي صلى الله عليه وسلم كلما احتاجوا دعا بما عندهم من فضلات الزاد فيدعو ، فيكثره الله حتى يكتفوا من عند آخرهم ، وأعطى أبا هريرة رضي الله عنه تمرات وأمره أن يجعلها في مزود وقال له : أنفق ولا تنثرها ، فأكل منه سنين وأنفق منه أكثر من خمسين وسقا . وبارك لآخر في قليل شعير وأمره أن لا يكيله ، فلم يزل ينفق منه على نفسه [ ص: 388 ] وامرأته وضيفه حتى كاله ففني ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لو لم تكله ؛ لأكلتم منه ، ولقام لكم ، وكان نحو ذلك لعائشة رضي الله عنها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم . وكذا لأم مالك رضي الله عنها في عكة سمن لم تزل تقيم لها أدمها حتى عصرتها . ومثل ذلك كثير في دلائل النبوة للبيهقي وغيره . وقيل لكم كلوا ودل على أنه أكثر من كفايتهم بقوله من طيبات جمع طيبة . قال الحرالي : والطيب ما خلص من منازع يشارك فيه وطيبه من سوى الأكل له أي لم ينازعه وليس فيه حق لغيره ، ومنه الطيب في المذاق وهو الذي لا ينازعه تكره في طعمه ، وهذا زاد على ذلك بكونه لم يكن عن عمل حرث [ ص: 389 ] ولا معاملة مع خلق . انتهى . ما رزقناكم أي على عظمتنا التي لا تضاهى .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما لم يرعوا هذه النعم أعرض عنهم للإيذان باستحقاق الغضب . وقال الحرالي : ثم أعرض بالخطاب عنهم وأقبل به على محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه . انتهى . فقال " وما " أي فظلموا بأن كفروا هذه النعم كلها وما ظلمونا بشيء من ذلك ولكن كانوا أي جبلة وطبعا أنفسهم أي خاصة يظلمون لأن ضرر ذلك مقصور عليهم . قال الحرالي : وفيه إشعار بتحذير هؤلاء أن يروا نحوا مما [ ص: 390 ] رأوا فينالهم نحو مما نالوه ، لأن قصص القرآن ليس مقصوده مقصورا على ذكر الأولين فقط ، بل كل قصة منه إنما ذكرت لما يلحق هذه الأمة في أمد يومها من شبه أحوال من قص عليهم قصصه . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية