الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

الفكر المنهجي عند المحدثين

الدكتور / همام عبد الرحيم سعيد

تقديم بقلم: عمر عبيد حسنة

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأنزل القرآن تبيانا لكل شيء وتعهد بحفظه

فقال: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) [الحجر:9]،

بينما وكل أمر حفظ الكتب السماوية السابقة إلى أهلها بقوله: ( ... بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ) [المائدة:44]،

ولعل هـذا التعهد بالحفظ، من لوازم الرسالة الخاتمة الخالدة، حتى يصل خطاب التكليف سليما لكل إنسان، مجردا عن حدود الزمان والمكان، ويكون البيان النبوي صحيحا فيصح التكليف وتتحدد المسئولية وتتحقق العدالة، ويترتب الثواب والعقاب.

ولقد استشعر المسلمون أهمية الأمانة -وهم أوعية النقل ووسائل الحفظ- فاشتدت عنايتهم من بدء الوحي بحفظ أسانيد شريعتهم من الكتاب والسنة بما لم تعن به أمة قبلهم، فحفظوا القرآن ورووه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواترا، آية آية، وكلمة كلمة، وحرفا حرفا، حفظا في الصدور وإثباتا في الصحف، حتى رووا أوجه نطقه بلهجات القبائل، ورووا طرق رسمه في الصحف، لذلك اعتبر القرآن من الناحية الوثائقية البحتة أقدم وثيقة تاريخية وردت بالتواتر (إفادة علم اليقين) مما دعا بعض علماء النصرانية إلى محاولة التعرف على حقيقتها بما ورد في القرآن نظرا لاضطراب أسانيدها. [ ص: 7 ]

وحفظ الصحابة أيضا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم كل أقوال وأفعاله وأحواله، وهو المبلغ عن ربه، والمبين لشرعه، والمأمور بإقامة دينه، فكل أقواله وأفعاله وأحواله تقع في دائرة البيان للقرآن، وهو الرسول المعصوم، والأسوة الحسنة،

يقول الله تعالى في بيان مهمته: ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) [النحل:44]

فجاء حفظ السنة والعناية بها ثمرة لازمة لحفظ القرآن، وامتازت الأمة المسلمة عن غيرها من الأمم بالرواية والإسناد ، الأمر الذي لا بد منه للقيام بمهمة البلاغ المبين على الوجه الصحيح،

والتي أعتبرها الله تعالى سبيل النجاة بقوله: ( قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا * إلا بلاغا من الله ورسالاته ) [الجـن:22-23].

وأمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين في حجة الوداع أمرا عاما ( فقال: وليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هـو أوعى له منه ) ، ( وقال: فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع ) ، وبذلك لم يقتصر الرسول صلى الله عليه وسلم في أمره على النقل (الرواية) وإنما نبه أيضا إلى فقه الرواية ووعيها ( الدراية ) وبهذا استحق المسلمون أن يرثوا النبوة ويستلموا القيادة الدينية للعالم بعد نكول بني إسرائيل ونقضهم للميثاق وتحريفهم للكلم.

وبعد:

فهذا كتاب "الأمة" السادس عشر "الفكر المنهجي عند المحدثين" للدكتور هـمام عبد الرحيم سعيد ، في سلسلة الكتب التي تصدرها رئاسة المحاكم الشرعية والشئون الدينية في دولة قطر، يأتي ليشكل إضافة هـامة في التأصيل للفكر المنهجي، والتحصين الثقافي، والتميز الحضاري، وضرورة العودة إلى الجذور [ ص: 8 ] والينابيع الأساسية، والتمكن من العلوم الأصلية لتراثنا، واستئناف البناء على الأصول الحضارية والثقافة الإسلامية، لتأتي انطلاقة الصحوة من مواقع صحيحة، وتبنى على أصول سليمة، وتحكم حركتها بضوابط شرعية، وتقف على أرض صلبة في مواجهة الأعاصير والكيود والعداوات التي تحاصرها وتطاردها وتقاتلها لتردها عن دينها إن استطاعت، فتستأنف دورها في القيادة الدينية متجنبة السقوط في علل وأمراض أصحاب الأديان السابقة، تؤدي رسالتها في البلاغ المبين، وتتحقق بالصلاح المطلوب لعمارة الأرض والقيام بأعباء الاستخلاف الإنساني عن جدارة وأهلية.

ومن الحقائق التي هـي محتاجة دائما إلى التأكيد والتنبيه أن غياب المنهج وفقدان الضوابط الشرعية يؤديان إلى الفوضى الفكرية في الحياة العلمية والثقافية، يتمثل ذلك في ضياع المقاييس، وكثرة التكرار والاجترار، والتبعثر وضياع الرؤية الشاملة، وعدم إبصار الأولويات، وتوالي النكسات الفكرية والسياسية، والاجتراء على دخول الساحة الفكرية ومحاولة المساهمة فيها ممن يحسن ذلك ومن لا يحسنه، والاجتراء على القول في الدين وتفسير مقولاته ونصوصه بلا فقه ولا علم.

ولم يقتصر ذلك على الذين يتحركون على الساحة الإسلامية بدون مؤهلات منهجية وعلوم أصولية، يظنون أن القضية الإسلامية يمكن أن تعالج، ومشكلات المسلمين يمكن أن تحل، بمزيد من التوثب الروحي والعاطفة الفوارة والحركة العشوائية وذهاب السهولة والتبسيط، بل انضم أيضا إلى ساحة الكتابات الإسلامية وتقويم العمل الإسلامي ووسائل نشر الدعوة - إلى جانب أولئك- كتاب من الخارج الإسلامي لبسو أثواب الجرح والتعديل دون أن يكون لهم أدنى [ ص: 9 ] نصيب من علم، أو منهج، أو حتى سلوك إسلامي، وعلماء الحديث اعتبروا الذين يكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم كالذين يكذبون عليه، وكانوا يقدرون الرجل لصلاحه ويردون حديثه لغفلته وعدم ضبطه، وفقدان أهليته، يقول الإمام مالك رحمه الله: إن من شيوخي من أستسقي بهم ولكن لا أروي عنهم الحديث .

فلكل علم منهجه وأهله وضوابطه، لذلك تبقى الحاجة ماسة إلى كتابات مكثفة في المنهج، بعد هـذه الفوضى وبعد أن دخل حياتنا الفكرية كل من هـب ودب.

ولا شك أن منهج المحدثين وقواعدهم انعكست على معظم العلوم والفنون النقلية، فقلدهم في ذلك علماء اللغة، والأدب، وعلماء التاريخ وغيرهم، فاجتهدوا في رواية كل نقل في علومهم بإسناده كما نراه في كتب المتقدمين، فهذا المنهج في الحقيقة أساس لكل العلوم النقلية، وهو كما وصفه أحد العلماء "منطق المنقول وميزان تصحيح الأخبار"، ومن البدهيات التي لا بد من إثباتها هـنا أن مدرسة الحديث أو أهل الأثر كانوا هـم السد العظيم الذي حال دون تسلل الخرافة وتفشي البدعة في الحياة الإسلامية، وكانوا دائما وراء حركات التصويب وإعادة الأمة إلى الجادة والوقوف بالمرصاد لكل دارس أو باحث أو عابد تضل به الطريق إلى درجة لم يعد يجرؤ معها أحد أن يقول في الدين دون تحقيق.. وإن كنا نعتقد أنه لا بد مع القدرة على حفظ النصوص الحديثية من أهلية النظر والفقه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هـو أوعى له منه ) .

لقد اجتهد علماء الحديث في رواية كل ما رواه الرواة -وإن لم يكن صحيحا- ثم اجتهدوا في الاستيثاق من صحة كل حديث وكل حرف رواه الرواة، ونقدوا أحوالهم ورواياتهم، واحتاطوا أشد الاحتياط، وحكموا بضعف الحديث لأقل شبهة، [ ص: 10 ] وقدموا الجرح على التعديل ، فكانت قواعدهم أصح القواعد للإثبات التاريخي.

ولا خيار أمامنا -ونحن نحاول النهوض من جديد- من العودة لتمثل العلوم الأصلية، واكتساب المناهج التي قامت عليها حضارتنا وتراثنا، ذلك أن الذين حاولوا التلفيق، والنهوض بالأمة من الخارج الإسلامي، أخفقوا وساهموا بتكريس التخلف وتنميته، لأنهم أخطأوا المنهج وقاسوا الواقع الحضاري للأمة بغير مقياسه الصحيح، وقوموا البناء على غير أسسه، واعتبروا الحضارة الأوروبية وعلومها هـي المقياس لكل حضارة، ووسيلة النهوض لكل تقدم، والتاريخ الإسلامي شاهد على أن أي نهوض لم يتحقق إلا من الداخل الإسلامي.

وعلى الجانب الآخر فقد يكون المطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى -وقد تعاظمت حركة الوعي الإسلامي- أن نقف مع العلوم الأصلية لنصلها بواقع الحياة بعد أن توقفت وأصبحت تجريدات بعيدة عن الواقع، ومقولات نظرية ومنظومات محفوظة لا تلد فقها ولا تدخل واقعا، ولا شك أن هـذه الدراسات المنهجية ليست مقدسة لذاتها، وإنما تكتسب قيمتها بما تقدمه من نتائج تنعكس حضاريا وثقافيا على حياة الأمة، لأنها في نهاية المطاف هـي من علوم الآلة التي تكتسب للاستخدام، وإن كانت عصور تخلف المسلمين جعلت منها غايات يتوقف عندها، ومن ثم لا تكون هـناك أية تطلعات لتعدية الرؤية وانسحاب آثارها إلى فروع الحياة الإسلامية، ومع الأسف فإن الكثير من هـذه العلوم التي تشكل المنهج الأساسي للعقل المسلم لم يبق لها في حياتنا إلا القيمة التاريخية، أما القدرة على تجاوز الماضي وصناعة الحاضر فلا تكاد تذكر.

إن التوقف عند عمليات الفخر والاعتزاز بإنجاز السلف سوف يشكل عبئا [ ص: 11 ] ومعوقا ينقلب إلى ضده إذا لم يترجم إلى واقع يدفع الأمة إلى ترسم الخطوات السابقة، ولا بد من الاعتراف أيضا أن الكثير من علمائنا ودارسينا اليوم يعجزون عن الإتيان بمجرد مثال آخر للقواعد التي أصلها السلف! فكيف نكون والحالة هـذه قادرين كأمة على الإفادة من هـذه العلوم في حياتنا؟

من نصف قرن أو يزيد، ونحن لا نزال نطرح ونقرأ ونسمع عن ضرورة الإفادة من منهج المحدثين في إعادة كتابة التاريخ، وتدوين الأخبار، وأنه الطريق الوحيد لغربلة الرواية التاريخية وتنقية التراث ، وإلى الآن لم تخرج القضية عن طور الأمنيات، ولم نستطع أن نغادر مواقعنا قيد أنملة، والمحاولات التي تمت في هـذا المجال إنما هـي محاولات فردية، مأجورة إن شاء الله بإثارة الموضوع والسير خطوات في الطريق، لكنها تبقى عاجزة تنوء بحملها الثقيل.

ومن الأمانة هـنا أن نذكر المحاولة العلمية الرائدة التي قام بها أستاذنا الدكتور يوسف العش رحمه الله عميد كلية الشريعة بجامعة دمشق، في عرض الرواية التاريخية لمرحلة الفتنة الكبرى في التاريخ الإسلامي ورجالها، على موازين علماء الحديث، والنتائج الهامة التي انتهى إليها بعد أن أسقط رواية الرجال الذين لا يرتضي علماء الحديث روايتهم، وأثبت براءة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين مما نسب إليهم الوضاعون وأعداء الدين.

وجهود الأخ الدكتور عماد الدين خليل في نقد المروي وموازنة الروايات ومقارنتها، الأمر الذي أدى إلى إسقاط الكثير من الروايات التي وردت في الطبري -في موضوع البيعة وخلافة الصديق رضي الله عنه - وترجيح رواياتالطبري الأخرى، خاصة وأن الطبري وهو يعتبر الكتاب الأم للتاريخ الإسلامي [ ص: 12 ] لم يعن بنقد الروايات التاريخية وإنما اكتفى بتسجيلها وحفظها وتقديمها للدارسين.

ومن الجدير بالتسجيل في هـذا المجال أيضا المنهج المحكم الذي أصله عبد الرحمن بن خلدون - في القرن الثامن- في علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط وذكر شيء من أسبابها ونقد المروي لاعتماد المؤرخين على مجرد النقل وعدم عرض الروايات على أصولها، وقياسها بأشباهها، وسبرها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة بالأخبار، وكيف ضلوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط وأتى لذلك بالأمثلة الموضحة.

ويبقى المطلوب دائما، إشاعة علوم المنهج في الأمة بشكل عام، واستمرار تناولها بالبحث والدرس والنقد والموازنة والترجيح حتى يشكل البحث في  المنهج مناخا عاما ينشأ عليه عقل الأمة.

لقد استطاعت أوروبة هـضم المنهج الإسلامي في العلوم والفنون، وأفادت منه بالقدر الذي تراه، أما نحن فلا نزال نمارس البكاء على الأطلال، ويظن الكثير منا أن خدمة الإسلام إنما تكون برفع الأصوات وامتلاك القدرة على الخطابة وإثارة العوام، واليوم تشكل اللجان، وتقام مراكز البحوث والمؤسسات لإعادة كتابة التاريخ، وتخطيط الثقافة بعيدا عن العلماء والمفكرين المسلمين ولسوف تفرض دراسات هـؤلاء نفسها، لأن الساحة خالية من أي عطاء يذكر في هـذا المجال، والمحاولات إن وجدت فهي محاولات فردية لا تستطيع القيام بالعبء الكبير، والمؤسف أن الحواس الإسلامية قد أصيبت لسبب أو لآخر، وأن الكثير من الإسلاميين لا يرى إلا لونا واحدا في العمل الإسلامي. [ ص: 13 ]

وبعد:

فعلى الرغم من أن الكتاب الذي نقدمه تخصصي إلى حد بعيد فقد أصبحت الحاجة ماسة إلى الكتب التخصصية التي تبحث في المنهج -كما أسلفنا- بعد هـذا الهراء الكثير الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وتأتي أهمية الكتاب من أن المؤلف ركز جهده على إبراز ملامح منهج علماء الحديث في الرواية والدراية واستطاع أن يذلل هـذا الموضوع ليكون في متناول المثقف المسلم بشكل عام، وأن يسلمه المفتاح الذي يمكنه من التعامل مع كتب الأصول ويعرفه بالمنهج الذي يحكمها.

والمؤلف متخصص في هـذا العلم ومدرس له، وله محاولات مشكورة ومقدورة في ترجمة هـذا المنهج إلى واقع معاش، وقد أفاد من قضايا التخصص فوضع كتابا في قواعد الدعوة إلى الله، يجمع بين التخصص الأكاديمي والتجربة الميدانية في مجال الدعوة، والله نسأل أن ينفع به ويلهمنا رشدنا ويهدينا سواء السبيل. [ ص: 14 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية