الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان الإيثار وفضله .

اعلم أن السخاء والبخل كل منهما ينقسم إلى درجات .

فأرفع درجات السخاء الإيثار ، وهو أن يجود بالمال مع الحاجة .

وإنما السخاء عبارة عن بذل ما يحتاج إليه لمحتاج ، أو لغير محتاج ، والبذل مع الحاجة أشد .

وكما أن السخاوة قد تنتهي إلى أن يسخو الإنسان على غيره مع الحاجة فالبخل قد ينتهي إلى أن يبخل على نفسه مع الحاجة فكم من بخيل يمسك المال ، ويمرض ، فلا يتداوى ويشتهي الشهوة ، فلا يمنعه منها إلا البخل بالثمن ولو وجدها مجانا لأكلها .

فهذا بخيل على نفسه مع الحاجة ، وذلك يؤثر على نفسه غيره مع أنه محتاج إليه .

، فانظر ما بين الرجلين فإن الأخلاق عطايا يضعها الله حيث يشاء ، وليس بعد الإيثار درجة في السخاء .

وقد أثنى الله على الصحابة رضي الله عنهم به فقال : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة وقال النبي صلى الله عليه وسلم : أيما امرئ اشتهى شهوة فرد شهوته ، وآثر على نفسه غفر له وقالت عائشة رضي الله عنها : ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا، ولو شئنا لشبعنا ، ولكنا كنا نؤثر على أنفسنا .

ونزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف ، فلم يجد عند أهله شيئا ، فدخل عليه رجل من الأنصار فذهب بالضيف إلى أهله ثم وضع ، بين يديه الطعام وأمر امرأته بإطفاء السراج وجعل يمد يده إلى الطعام كأنه يأكل ولا يأكل حتى أكل الضيف فلما أصبح قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد عجب الله من صنيعكم الليلة إلى ضيفكم ، ونزلت : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، فالسخاء خلق من أخلاق الله تعالى .

التالي السابق


(بيان الإيثار وفضله)

(اعلم أن السخاء والبخل كل واحد) منهما (ينقسم إلى درجات، فأرفع درجات السخاء الإيثار، وهو أن يجود بالمال) على الغير (مع الحاجة إليه، وإنما السخاء عبارة عن بذل ما لا يحتاج إليه) سواء كان (لمحتاج، أو غير محتاج، والبذل) مع وجود (الحاجة أشد) ; فلذا كان الإيثار أرفع درجاته، وهذا هو حد السخاء في المخلوق، وسيأتي الكلام عليه عند ذكره في الفصل الذي يليه .

(وكما أن السخاوة قد تنتهي إلى أن يسخو الإنسان على غيره مع الاحتياج) لما يسخو به (فالبخل قد ينتهي إلى أن يبخل على نفسه مع الحاجة) إليه (فكم من بخيل يمسك المال، ويمرض، فلا يتداوى) لبخله (ويشتهي الشهوة، فلا يمنعه منها إلا البخل بالثمن) ، والإمساك للمال محبة فيه [ ص: 201 ] (و) قرينة ذلك أنه (لو وجدها مجانا) بغير عوض لأكلها، فدل ذلك أن الامتناع منها إنما هو لأجل البخل (فهذا يبخل على نفسه مع الحاجة، وذلك يؤثر على نفسه غيره مع أنه لا حاجة به إلى ذلك، فانظر ما بين الرجلين) من التفاوت (فإن الأخلاق عطايا) من الملك الخلاق - جل سبحانه - (يضعها الله حيث يشاء، وليس بعد الإيثار درجة في السخاء، وقد أثنى الله تعالى على الصحابة) - رضوان الله عليهم - (فقال: ويؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة ) ، أي: حاجة وفقر، كما سيأتي قريبا في سبب نزوله .

(وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيما رجل) ، وفي رواية: أيما امرئ (اشتهى شهوة فرد شهوته، وآثر على نفسه غفر له) ، وفي رواية: غفر الله له .

قال العراقي: رواه ابن حبان في الضعفاء، وأبو الشيخ في الثواب من حديث ابن عمر بسند ضعيف، وقد تقدم. انتهى .

قلت: وكذلك رواه الدارقطني في الأفراد، وقد تقدم للمصنف سبب هذا الحديث، وهو ما رواه نافع أن ابن عمر اشتهى سمكة طرية، وكان قد نقه من مرضه، فالتمست بالمدينة، فلم توجد، حتى وجدت بعد مدة، واشتريت بدرهم ونصف، فأشويت، وجيء بها على رغيف، فقام سائل بالباب، فقال ابن عمر للغلام: لفها برغيفها، وارفعها إليه، فأبى الغلام، فرده، وأمره بدفعها إليه، ثم جاء بها فوضعها بين يديه، وقال: كل هنيئا يا أبا عبد الرحمن، فقد أعطيته درهما، وأخذتها، فقال: لفها وادفعها إليه، ولا تأخذ منه الدرهم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أيما امرئ اشتهى، وذكر الحديث .

(وقالت عائشة - رضي الله عنها -: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا، ولو شئنا لشبعنا، ولكنا كنا نؤثر على أنفسنا) .

قال العراقي: رواه البيهقي في الشعب بلفظ: ولكنه كان يؤثر على نفسه، وأول الحديث عند مسلم بلفظ: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعا من خبز بر حتى مضى لسبيله.

وللشيخين: ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة ثلاث ليال تباعا حتى قبض.

زاد مسلم: من طعام بر.

(ونزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف، فلم يجد عند أهله شيئا، فدخل عليه رجل من الأنصار) ، وهو أبو طلحة زيد بن سهل - رضي الله عنه - (فذهب به إلى أهله، فوضع بين يديه الطعام) الذي هو قوته، وقوت صبيانه (وأمر امرأته) ، وهي أم سليم - رضي الله عنها - (بإطفاء السراج) ، فقامت كأنها تصلح السراج، فأطفأته (وجعل يمد يده إلى الطعام كأنه يأكل) ، أي: يظهر من نفسه الأكل (ولا يأكل) إيثارا (حتى أكل الضيف الطعام) ، وبقي هو وعياله مجهودين (فلما أصبح) ، وغدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سبقه جبريل - عليه السلام -، فأخبره بما صنع (قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد عجب الله - عز وجل - من صنيعكم الليلة إلى ضيفكم، ونزلت: ويؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة ) متفق عليه من حديث أبي هريرة.

(فالسخاء خلق من أخلاق الله تعالى) ، وقد روى أبو نعيم، والديلمي، وأبو الشيخ، وابن النجار من حديث ابن عباس: السخاء خلق الله الأعظم.

أي: فمن تخلق به تخلق بصفة من صفاته تعالى .




الخدمات العلمية