الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 592 ] وسئل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن خلق السموات والأرض وتركيب النيرين والكواكب هل هي مثبتة في الأفلاك والأفلاك تتحرك بها ؟ أم هي تتحرك والفلك ثابت ؟ أم كلاهما متحرك ؟ وهل الأفلاك هي السموات أم غيرها ؟ وهل تختص النجوم بالسماء الدنيا ؟ وهل إذا كان الشمس والقمر في بعض السموات يضيء نورها جميع السموات ؟ وهل ينتقلان من سماء إلى سماء ؟ وهل الأرضون سبع أو بينهن خلق أو بعضهن فوق بعض ؟ وهل أطراف السموات على جبل أم الأرض في السماء كالبيضة في قشرها والبحر تحت ذلك والريح تحته ؟ وهل فوق السموات بحر تحت العرش .

                التالي السابق


                فأجاب : الحمد لله . هذه المسائل تحتاج إلى بسط كثير لا تحتمله هذه الورقة والسائل عن هذه المسائل يحتاج إلى معرفة علوم متعددة ليجاب بالأجوبة الشافية فإن فيها نزاعا وكلاما طويلا لكن نذكر له بحسب الحال . أما قوله : الأفلاك هل هي السموات أو غيرها ؟ ففي ذلك قولان معروفان للناس لكن الذين قالوا إن هذا هو هذا احتجوا بقوله تعالى : { ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا } { وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا } قالوا : فأخبر الله أن القمر في السموات . وقد قال تعالى : { وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون } وقال تعالى : { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون } . فأخبر في الآيتين أن القمر في الفلك ; كما أخبر أنه في السموات ولأن الله أخبر أنا نرى السموات بقوله : { الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير } . وقال : { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج } وأمثال ذلك من النصوص الدالة على أن السماء مشاهدة ; والمشاهد هو الفلك ; فدل على أن أحدهما هو الآخر .

                وأما قوله : هل الشمس والقمر تحركان بدون الفلك أم حركتهما بحركة الفلك ففيه نزاع أيضا ; لكن جمهور الناس على أن حركتهما بحركة الفلك . وأما قوله تعالى { كل في فلك يسبحون } فلا يمنع أن يكون ما ذكره من أنهم يسبحون تابعا لحركة الفلك كما في الليل والنهار فإن تعاقب الليل والنهار تابع لحركة غيرهما وقوله . { كل في فلك يسبحون } يتناول الليل والنهار والشمس والقمر كما بين ذلك في سورة الأنبياء . [ ص: 594 ] وكذلك في سورة يس : { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون } { والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم } { والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم } { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون } . فتناول قوله { كل في فلك يسبحون } ما تقدم : الليل والنهار والشمس كما ذكر في سورة الأنبياء وإذا كان أخبر عن الليل والنهار بما أخبر به من أنهما يسبحان وذلك تابع لحركة غيرهما مثل ذلك ما أخبر به من أن الشمس والقمر يسبحان تبعا للفلك وعلى ذلك أدلة ليس هذا موضع بسطها .

                وأما النجوم فإن الله أخبر أنها زينة للسماء الدنيا كما قال تعالى : { إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب } وقال : { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح } فقال بعض من قال إن الأفلاك غير السموات وإن المراد بالسماء الدنيا هنا الفلك الثامن الذي يذكر أهل الهيئة أن الكواكب الثابتة فيه وادعوا أن تلك هي السموات العلى وأن الأفلاك هي السموات الدنيا ولكن هذا قول مبني على أصل ضعيف . وأيضا فإن الذي نشهده هو الكواكب . وقال تعالى : { فلا أقسم بالخنس } { الجواري الكنس } والخنوس الاختفاء وذلك قبل ظهورها من المشرق . والكنوس رجوعها من جهة المغرب فما خنس قبل ظهورها كنس بعد مغيبها جوار حال ظهورها تجري من المشرق إلى المغرب . [ ص: 595 ] والشمس والقمر في الفلك كما أخبر الله تعالى لا تنتقل من سماء إلى سماء . وليست السموات متصلة بالأرض لا على جبل قاف ولا غيره ; بل الأفلاك مستديرة كما أخبر الله ورسوله وكما ذكر ذلك علماء المسلمين وغيرهم .

                فذكر أبو الحسين بن المنادي وأبو محمد بن حزم وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهم إجماع المسلمين على أن الأفلاك مستديرة . وقال ابن عباس في قوله : { كل في فلك يسبحون } قال : في فلكة مثل فلكة المغزل . والفلك في لغة العرب الشيء المستدير يقال : تفلك ثدي الجارية إذا استدار . وقد خلق الله سبع أرضين بعضهن فوق بعض كما ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من ظلم شبرا من الأرض طوقه من سبع أرضين يوم القيامة } وقد ذكر أبو بكر الأنباري الإجماع على ذلك وأراد به إجماع أهل الحديث والسنة . وتحت العرش بحر كما جاء في الأحاديث وكما ذكر في تفسير القرآن وكما أخبر الله أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء . والعرش فوق جميع المخلوقات وهو سقف جنة عدن التي هي أعلى الجنة كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس ; فإنه أعلى الجنة وسقفه عرش الرحمن }

                . [ ص: 596 ] والأرض يحيط الماء بأكثرها والهواء يحيط بالماء والأرض والله تعالى بسط الأرض للأنام وأرساها بالجبال ; لئلا تميد كما ترسى السفينة بالأجسام الثقيلة إذا كثرت أمواج البحر وإلا مادت والله تعالى { يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا } . والمخلوقات العلوية والسفلية يمسكها الله بقدرته سبحانه وما جعل فيها من الطبائع والقوى فهو كائن بقدرته ومشيئته سبحانه .




                الخدمات العلمية