الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 278 ] باب صلاة التطوع وقيام شهر رمضان

                                                                                                                                            قال الشافعي ، رضي الله عنه : " الفرض خمس في اليوم والليلة ، لقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي حين قال : هل علي غيرها ؟ قال : لا إلا أن تطوع " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال يتضمن هذا الفصل الخلاف في صلاة الوتر فعند الشافعي أنها سنة ، وبه قال الفقهاء كافة .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : الوتر واجب .

                                                                                                                                            قال ابن المنذر ، ولم يذهب إلى هذا غير أبي حنيفة .

                                                                                                                                            واستدل من نصر قوله برواية خارجة بن حذافة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله سبحانه أمركم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم وهي الوتر جعلها بين العشاء والفجر .

                                                                                                                                            وبرواية عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله عز وجل زادكم صلاة هي خير لكم من حمر النعم ألا وهي الوتر حافظوا عليها .

                                                                                                                                            قالوا : وفيه دليلان :

                                                                                                                                            أحدهما : إخباره صلى الله عليه وسلم أن الزيادة من جهة الله عز وجل ، والوارد من جهته واجب .

                                                                                                                                            والثاني : أن الزيادة تضاف إلى شيء محصور ، والنوافل غير محصورة فدل أنها مضافة إلى الفرائض المحصورة .

                                                                                                                                            [ ص: 279 ] وبرواية عبد الله بن بريدة ، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الوتر حق ، فمن لم يوتر فليس منا ، من لم يوتر فليس منا ، من لم يوتر فليس منا .

                                                                                                                                            قالوا : فنفى تارك الوتر عن الملة ، فدل على وجوبه ليستحق هذه الصفة بتركه .

                                                                                                                                            وبرواية علي بن أبي طالب ، عليه السلام ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن .

                                                                                                                                            وهذا أمر .

                                                                                                                                            وبرواية أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الوتر حق على كل مسلم " ولفظه على لفظة وجوب .

                                                                                                                                            وبرواية في بعض الأخبار : " الوتر حق واجب على كل مسلم " ، ولأنها صلاة وتر فوجب أن تكون واجبة كالمغرب .

                                                                                                                                            والدلالة على أن الوتر سنة قوله تعالى : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى [ البقرة : 238 ] ، فلو كانت الوتر واجبة لكانت ستا ، والست لا تصح أن يكون لها وسطى ، فعلم أنها خمس وروى الشافعي ، عن مالك ، عن عمه أبي سهيل بن مالك ، عن أبيه ، عن طلحة بن عبيد الله ، رضي الله عنه ، أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : ما الإسلام قال : خمس صلوات في اليوم والليلة ، قال : فهل علي غيرها ؟ قال : لا ، إلا أن تطوع . فقال : والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أفلح إن صدق فكان في هذا الخبر ثلاثة أدلة :

                                                                                                                                            أحدها : أنه سأله عن الفرض الذي عليه فقال صلى الله عليه وسلم : " خمس في اليوم والليلة " ، ولم يقل : ست .

                                                                                                                                            والثاني : قوله : " هل علي غيرها ؟ " . فقال صلى الله عليه وسلم : " لا " ، فنفى عنه وجوب غيرها ، ثم أكد النفي بقوله صلى الله عليه وسلم : " إلا أن تطوع " .

                                                                                                                                            والثالث : قول الأعرابي : " والله لا أزيد عليها ، ولا أنقص منها " ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أفلح إن صدق " ، فلو كان الوتر واجبا لم يكن بتركه مفلحا .

                                                                                                                                            [ ص: 280 ] وروى عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تعالى وتر يحب الوتر ، فأوتروا يا أهل القرآن ، فقام أعرابي ، فقال : هل تجب علي يا رسول الله ؟ فقال : إنها ليست لك ولا لقومك فلو كان الوتر واجبا لعم وجوبه جميع الناس كالصلوات الخمس .

                                                                                                                                            وروى عبد الله بن محيريز أن المخدجي سمع رجلا بالشام يدعى بأبي محمد يقول : إن الوتر واجب ، قال المخدجي : فوجدت عبادة بن الصامت ، فقلت : إن أبا محمد الأنصاري يزعم أن الوتر واجب فقال : كذب أبو محمد ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " خمس كتبهن الله على عباده ، فمن أتى بهن ، ولم يضيع منهن شيئا استخفافا بهن كانت له على الله عز وجل عهد أن يدخله الجنة ، ومن لم يأت بهن لم يكن له على الله عز وجل عهد ، فإن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له وروى الزهري ، عن أنس بن مالك حديث المعراج قال : لما عرج النبي صلى الله عليه وسلم فرض على أمته خمسون صلاة ، فقال له موسى ، عليه السلام : سل ربك التخفيف لأمتك قال : فترددت بين يدي الله عز وجل ، حتى ردها إلى خمس ، وسمعت مناديا ينادي إلا أني قد مضيت فريضتي ، وخففت عن عبادي ، وجعلت لهم بكل حسنة أمثالها : ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد [ ق : 29 ] .

                                                                                                                                            وروى عكرمة ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كتب علي الوتر ولم تكتب عليكم ، وكتبت علي الأضحية ، ولم تكتب عليكم ولأنها صلاة لم يسن لها الأذان ، فوجب أن لا تكون واجبة على الكافة ابتداء بأصل الشرع قياسا على سائر النوافل ، ولأن الصلوات ضربان فرض ، ونفل ، فلما كان في جنس الفرض وتر وجب أن يكون في جنس النفل وتر كالفرائض .

                                                                                                                                            وتحرير ذلك قياسا : أنه أحد نوعي الصلاة فوجب أن يكون في جنسه وتر كالفرائض ، ولأنها صلاة من سننها أن تكون تبعا لغيرها فوجب أن تكون نفلا قياسا على الركعتين بعد الظهر ، ولأنها صلاة لا يكفر جاحدها ، ولا يفسق تاركها ، ولا يقتل من توانى عنها ، فكانت بالنوافل أشبه لاشتراكهما فيما ذكرنا .

                                                                                                                                            فأما الاحتجاج عن جوابهم بقوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى أمركم " فهو أن يقال لا حجة لهم فيه : لأن الله عز وجل أمرنا بصلاة النفل كما أمرنا بالواجب .

                                                                                                                                            [ ص: 281 ] وأما قوله صلى الله عليه وسلم : " زادكم " فهو دليلنا ، لأنه زاد لنا لا علينا ، وقولهم الزيادة لا تكون إلا على محصور ، فيقال لهم : النوافل ضربان : مؤكدة ، وغير مؤكدة ، فالمؤكدة محصورة القدر ، كركعتي الفجر ، والنوافل الموظفات قبل الصلوات وبعدها على أن من أصلهم أنها غير مزيدة على شيء ، لأنها ليست عندهم فرضا تزاد على الوظائف ، ولا نفلا تزاد على النوافل فسقط من حيث أوردوه .

                                                                                                                                            وأما حديث ابن بريدة ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " من لم يوتر فليس منا " فمتروك الظاهر بإجماع : لأن تارك الوتر لا يكون كافرا خارجا عن الملة ، فاحتجنا وإياهم إلى تأويل يحمل عليه ظاهر الحديث ، ونحن أقدر على تأويله منهم ، فنقول : معناه من لم يوتر معتقدا أنها غير سنة ، فليس منا على أن هذه اللفظة قد تستعمل في ترك المندوب إليه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا فليس منا وتوقير الكبير مندوب إليه وليس بواجب .

                                                                                                                                            وأما حديث علي رضي الله عنه ففيه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن قوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله عز وجل وتر يحب الوتر " فلا يدل على وجوبه ، وإنما يدل على فعله واستحبابه .

                                                                                                                                            والثاني : أن في تخصيص أهل القرآن به .

                                                                                                                                            وقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي : " إنها ليست لك ، ولا لقومك " دليل على كونه سنة وندبا .

                                                                                                                                            وأما حديث أبي أيوب فقد روينا عنه في الخبر أنه صلى الله عليه وسلم قال : " الوتر حق مسنون على كل مسلم " ، فسقط الاستدلال به .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على المغرب ، فالمعنى فيه : أنها صلاة سن لها أذان ، وإقامة ، ثم يقال لأبي حنيفة : ما تعم البلوى به لا يثبت على أصلك بالقياس ، ولا بخبر الواحد وليس معك فيه تواتر ، فلم أثبت وجوبه ، وفيه مخالفة أصلك ، فإن ذكر جوابا كان توقيفا واعتذارا تفضحه السير - والله أعلم - .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية