الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                النظر الثاني : في التصرف في المبيع قبل القبض ، وفيه فصلان :

                                                                                                                الفصل الأول : في التصرف على وجه المكايسة ، وفي الجواهر : لا يقف شيء من التصرفات على القبض إلا البيع فيمتنع في بيع الطعام قبل قبضه ، لقوله عليه السلام في الصحاح : ( من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه ) فيمتنع فيما فيه حق توفية من كيل أو وزن أو عدد ، إلا في غير المعلومة كالقرض والبدل ، ثم لا يجوز لمن صار إليه هذا بيعه قبل قبضه ، وأما ما بيع جزافا فيجوز قبل النقل إذا تخلى البائع بينه وبينه لحصول الاستيفاء ، ومنع ( ش ) و ( ح ) لقول ابن عمر رضي الله عنهما : كنا نبتاع الطعام على عهده عليه السلام فيبعث علينا من يأمرنا بنقله من المكان الذي نبتاعه فيه إلى مكان سواه ، وقال ابن عمر رضي الله عنهما : كنا إذا ابتعنا طعاما جزافا لم نبعه حتى نحوله من مكانه ، قال سند : قال عبد الوهاب : التخلية قبض في الجزاف ، قال الباجي : مراده بالتخلية التوفية فعلى هذا إذا حبسه بالثمن يمتنع بيعه ، وعن مالك : منع بيع الجزاف قبل قبضه ، ويحتمل أن يريد بالقبض التخلية ، ويحتمل الحوز والنقل ، وفي الجواهر : والمشهور اختصاص المنع بالطعام ، ونعيمه فيه ، وقال ابن حبيب : يتعدى لما فيه حق توفية لنهيه - عليه السلام - في الترمذي عن ربح ما لم يضمن .

                                                                                                                قال فيه الترمذي : صحيح ، وأشار ابن وهب في روايته إلى تخصيصه بالربوي [ ص: 134 ] من الطعام ، وقال ( ش ) و ( ح ) : يمتنع التصرف في المبيع قبل قبضه مطلقا ، واستثنى أبو حنيفة العقار ; لأن العقد لا يخشى انفساخه بهلاكه قبل القبض ، قال صاحب القبس : في البيع قبل القبض ستة أقوال : المنع مطلقا ( ش ) : المنع إلا في العقار ، ( ح ) : يختص بالربوي يعم المطعومات إلا الجزاف ويخصها ، مشهور مالك : يختص بالمطعومات والمعدودات ، لعبد العزيز بن أبي سلمة : يعم المطعومات والجزاف ، ووافق المشهور ابن حنبل ، احتجا بأنه عليه السلام لما بعث عتاب بن أسيد أميرا على مكة أمره أن ينهاهم عن بيع ما لم يقبضوا ، وربح ما لم يضمنوا .

                                                                                                                وللحديث الذي صححه الترمذي سابقا ، والقياس على الطعام ، والجواب عن الأول معناه : نهيه عليه السلام عن بيع ما ليس عندك ، فنهى الإنسان أن يبيع ملك غيره ، ويضمن الخلاص ، ودليله : قوله عليه السلام : ( الخراج بالضمان ) والغلة للمشتري فيكون الضمان له ، فما باع إلا مضمونا ، فما تناول الحديث محل النزاع ، وهو الجواب الثاني ، والجواب عن الثالث : أن الطعام أشرف من غيره لكونه سببا لقيام البنية وعماد الحياة ، فشدد الشرع فيه على عادته من تكثير الشروط فيما عظم شرفه ، كالشرط الولي والصداق في عقد النكاح دون عقد البيع ، ويشترط في القضاء ما لا يشترط في منصب الشهادة ، ثم يتأكد ما ذكرناه بمفهوم نهيه عليه السلام عن بيع الطعام [ ص: 135 ] حتى يستوفى .

                                                                                                                ومفهومه : أن غير الطعام يجوز بيعه ، وما لا توفية فيه كذلك ، فيجوز الجزاف من الطعام ، وبقوله تعالى : ( وأحل الله البيع ) .

                                                                                                                سؤال : أدلة الخصوم عامة في الطعام وغيره ، والقاعدة الأصولية : أن ذكر بعض أنواع العموم لا يخصصه ، فالحديث الخاص بالطعام لا يخصص تلك العمومات ، فإن من شرط المخصص أن يكون منافيا ، والجزء لا ينافي الكل ، والقاعدة أيضا : أن الخاص مقدم على العام عند التعارض ( وأحل الله البيع ) أعم من أدلة الخصوم فتقدم تلك الأدلة عليها ، والاعتماد في تخصيص تلك الأدلة على عمل المدينة لا يستقيم مع الخصم ; لأنه لا يسلم أنه حجة فضلا عن تخصيص الأدلة به .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال اللخمي : اختلف في الجزاف إذا كان من ضمان البائع ، كمن أسلم في لبن غنم شهرا جزافا قال ابن القاسم : لا يبيعه حتى يحلبه كان حلابه كالتوفية ، وأجازه أشهب لعدم احتياجه إلى العيار ، قال سند : ليس المراد بمنع بيع الطعام ، ما سمي طعاما ، فالماء الأجاج ليس مرادا إجماعا ، وإن كان بيت الملح الذي هو طعام ، وفي الموازية : ليس بزر البصل والجوز والبطيخ والقرع والكراث من الطعام ، وقال ابن القاسم في حب الغاسول : ليس طعاما ، وإن كانت الأعراب تأكله ، والفرق بين التفاضل والبيع قبل القبض في الفواكه والخضر : أن الحاجة إلى التفاضل فيها آكد من الحاجة إلى البيع قبل القبض ; لأن الإنسان قد يقصد استبدال الكثير الأدنى بالخير القليل ، والغالب في هذه [ ص: 136 ] الأمور القبض عند العقد فلا حاجة لبيعها قبل قبضها .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال : إذا وقع بيع الطعام قبل قبضه منع المتأخرون قبضه ، فإن قبضه فالقياس : الرد إلى البائع الثاني ; لأن الأول قد برئ منه لما قبضه الأخير ، لأنه كقبض وكيله ، وهو ظاهر الموازية ، وفي السليمانية : يرد للبائع الأول ليأخذه مشتريه منه ; لأنه مقتضى العقد الأول ، ولم يوف به ، وليس للبائع إجازة البيع ; لأنه بيع الطعام قبل قبضه ، فإن غاب المبتاع الثاني وغاب على الطعام قال محمد : يؤخذ الثمن من البائع ; ليشتري به طعام الغائب ويرد للبائع ، فإن كان أقل من كيله كان الباقي دينا على الغائب ، ولا يصدق البائع والمبتاع في العقد الثاني حتى تثبت بينة ، وحينئذ يلزم البائع الإتيان بالمثل ، ويخير المشتري بين أخذه وإمضاء البيع الأول ، وبين فسخ البيع عند أشهب ; لأن المبيع مقيد ، فلا يجبر على أخذ غيره ، ويتعين أخذ المثل عند مالك ; لأن ملك البائع الأول انتقل إلى المبتاع بالتعدي على ملك البائع ، وإن ادعى على البائع التلف وجهل ، جبره عليه مبلغ الطعام عند ابن القاسم ، ولا يصدق .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                إذا اشترى جزء صبرة يختلف في بيعه قبل قبضه ورجع مالك إلى الجواز ; لأن الجزء مشاع مقسوم بتعين الجملة ، كما في العبد والدابة ، وكذلك يطالب [ ص: 137 ] المتعدي على جزء الصبرة بذلك الجزء بخلاف المكيل ، فإنما يطالبه المالك بها .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال : إذا اشترى صبرة غائبة على الصفة يمتنع بيعها حتى يراها ، قال محمد : لأنها في ضمان البائع ، ويتخرج الخلاف فيها على الخلاف في ضمان بيع الغائب من البائع أو من المشتري .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال : قال الشافعية : من شرط صحة البيع أن يكيله البائع للمبتاع ، واختلفوا إذا اكتال ولم يفرغ ; لقوله عليه السلام في البخاري : ( إذا ابتعت فاكتل ، وإذا بعت فكله ) ولنهيه عليه السلام عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان .

                                                                                                                والجواب عن الأول معناه : النهي عن تأخير القبض خشية الغرر ، وعن الثاني : أنه ليس في الصحاح ولا المشاهير ، وهو متروك الظاهر بالجزاف والموزون ، معارض بالقياس على الجزاف والموزون والمعدود .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال : إذا قبض الطعام وتركه عند زوجة البائع ، أو من هو متعلق به ، جاز بيعه قبل أخذه منه ; لأنه وديعة ، وقاله مالك في الغريم نفسه .

                                                                                                                [ ص: 138 ] فرع

                                                                                                                في الكتاب : تمتنع المواعدة في بيع الطعام قبل قبضه ، ولا بيع طعام تنوي أن تقبضه من الطعام الذي اشتريت سدا للذريعة ، قال أبو الطاهر : أجرى اللخمي المواعدة في بيع الطعام قبل قبضه على المواعدة في الصرف فيكون فيها ثلاثة أقوال ، وليس كما قال ، بل هي كالمواعدة على النكاح ، والفرق بينهما وبين الصرف : أن المواعدة منعت فيها خشية تعجيل العقد ، وتعجيل العقد في الصرف غير ممنوع ، فلا يختلف في منع المواعدة في النكاح ، والتعريض في الطعام كالتعريض في النكاح في العدة .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال صاحب البيان : طير الماء الذي لا يستحيى لا يجوز بيعه قبل قبضه إذا أسلم فيه ; لأنه طعام ، وحياته مستعارة عند ابن القاسم ، وأجازه أشهب نظرا لحياته ، وإن اشتراه معينا جاز عندهما لدخوله بالعقد في ضمانه كالجزاف .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية