الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                              قوله تعالى: وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا

                                                                                                                                                                                              حق الله على عباده أن يتقوه حق تقاته، والتقوى وصية الله للأولين والآخرين، قال تعالى: ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله

                                                                                                                                                                                              وأصل التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه . فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك، وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه . وتارة تضاف التقوى إلى اسم الله عز وجل، كقوله تعالى: واتقوا الله الذي إليه تحشرون وقوله: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون فإذا أضيفت التقوى إليه سبحانه وتعالى، فالمعنى: اتقوا سخطه وغضبه . وهو أعظم ما يتقى، وعن ذلك ينشأ عقابه الدنيوي والأخروي . قال تعالى: ويحذركم الله نفسه وقال تعالى: هو أهل التقوى وأهل المغفرة فهو [ ص: 361 ] سبحانه أهل أن يخشى ويهاب، ويجل ويعظم في صدور عباده حتى يعبدوه ويطيعوه، لما يستحقه من الإجلال والإكرام، وصفات الكبرياء والعظمة وقوة البطش، وشدة البأس . وفي الترمذي عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية: هو أهل التقوى وأهل المغفرة قال: "قال الله تعالى: أنا أهل أن أتقى، فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها آخر، فأنا أهل أن أغفر له " . وتارة تضاف التقوى إلى عقاب الله وإلى مكانه، كالنار، أو إلى زمانه . كيوم القيامة، كما قال تعالى: واتقوا النار التي أعدت للكافرين وقال تعالى: فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين وقال تعالى: واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ويدخل في التقوى الكاملة فعل الواجبات وترك المحرمات والشبهات . وربما دخل فيها بعد ذلك فعل المندوبات، وترك المكروهات، وهي أعلى درجات التقوى، قال الله تعالى: الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون

                                                                                                                                                                                              وقال تعالى: ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون [ ص: 362 ] قال معاذ بن جبل : ينادى يوم القيامة: أين المتقون؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب منهم ولا يستتر، قالوا له: من المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا لله بالعبادة . وقال ابن عباس : المتقون الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به .

                                                                                                                                                                                              وقال الحسن: المتقون اتقوا ما حرم عليهم، وأدوا ما افترض عليهم .

                                                                                                                                                                                              وقال عمر بن عبد العزيز : ليس تقوى الله بصيام النهار، ولا بصيام الليل . والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض الله، فمن رزق بعد ذلك خيرا، فهو خير إلى خير .

                                                                                                                                                                                              وقال طلق بن حبيب : التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله .

                                                                                                                                                                                              وعن أبي الدرداء قال: تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة، حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما يكون حجابا بينه وبين الحرام، فإن الله قد بين للعباد الذي يصيرهم إليه فقال: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره فلا تحقرن شيئا من الخير أن تفعله، ولا شيئا من الشر أن تتقيه .

                                                                                                                                                                                              وقال الحسن: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام . وقال الثوري : إنما سموا متقين، لأنهم اتقوا ما لا يتقى .

                                                                                                                                                                                              وقال موسى بن أعين: المتقون تنزهوا عن أشياء من الحلال مخافة أن يقعوا [ ص: 363 ] في الحرام، فسماهم الله متقين .

                                                                                                                                                                                              وقد سبق حديث: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس " . وحديث: "من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه " .

                                                                                                                                                                                              وقال ميمون بن مهران : المتقي أشد محاسبة لنفسه، من الشريك الشحيح لشريكه .

                                                                                                                                                                                              وقال ابن مسعود في قوله تعالى: اتقوا الله حق تقاته قال: أن يطاع، فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، وأن يشكر، فلا يكفر .

                                                                                                                                                                                              وخرجه الحاكم مرفوعا، والموقوف أصح، وشكره يدخل فيه جميع فعل الطاعات . ومعنى "ذكره فلا ينسى": ذكر العبد بقلبه لأوامر الله في حركاته وسكناته وكلماته فيمتثلها، ولنواهيه في ذلك كله فيجتنبها . وقد يغلب استعمال التقوى على اجتناب المحرمات،

                                                                                                                                                                                              كما قال أبو هريرة وسئل عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم، قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيت الشوك عدلت عنه، أو جاوزته، أو قصرت عنه، قال: ذاك التقوى . وأخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال:

                                                                                                                                                                                              خل الذنوب صغيرها . وكبيرها فهو التقى

                                                                                                                                                                                              [ ص: 364 ]     واصنع كماش فوق أر .
                                                                                                                                                                                              ض الشوك يحذر ما يرى     لا تحقرن صغيرة .
                                                                                                                                                                                              إن الجبال من الحصى



                                                                                                                                                                                              وأصل التقوى: أن يعلم العبد ما يتقى ثم يتقي .

                                                                                                                                                                                              قال عون بن عبد الله : تمام التقوى أن تبتغي علم ما لم تعلم منها إلى ما علمت منها .

                                                                                                                                                                                              وذكر معروف الكرخي عن بكر بن خنيس، قال: كيف يكون متقيا من لا يدري ما يتقي؟

                                                                                                                                                                                              ثم قال معروف: إذا كنت لا تحسن تتقي أكلت الربا، وإذا كنت لا تحسن تتقي لقيتك امرأة فلم تغض بصرك، وإذا كنت لا تحسن تتقي وضعت سيفك على عاتقك . وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمحمد بن مسلمة: "إذا رأيت أمتي قد اختلفت، فاعمد إلى سيفك فاضرب به أحدا" .

                                                                                                                                                                                              ثم قال معروف: ومجلسي هذا لعله كان ينبغي لنا أن نتقيه، ثم قال: ومجيئكم معي من المسجد إلى هاهنا كان ينبغي لنا أن نتقيه، أليس جاء في الحديث: "إنه فتنة للمتبوع، مذلة للتابع " . يعني: مشي الناس خلف الرجل . وفي الجملة، فالتقوى هي وصية الله لجميع خلقه، ووصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث أميرا على سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرا . [ ص: 365 ] ولما خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع يوم النحر وصى الناس بتقوى الله وبالسمع والطاعة لأئمتهم . ولما وعظ الناس، وقالوا له: كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة" . وفي حديث أبي ذر الطويل الذي خرجه ابن حبان وغيره: قلت: يا رسول الله، أوصني، قال: "أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس الأمر كله " . وخرج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري ، قال . قلت: يا رسول الله، أوصني، قال: "أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد، فإنه رهبانية الإسلام" .

                                                                                                                                                                                              وخرجه غيره ولفظه: قال: "عليك بتقوى الله، فإنها جماع كل خير" . وفي الترمذي عن يزيد بن سلمة: أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا رسول الله، إني سمعت منك حديثا كثيرا فأخاف أن ينسيني أوله آخره، فحدثني بكلمة تكون جماعا، قال: "اتق الله فيما تعلم " . ولم يزل السلف الصالح يتواصون بها، كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، يقول في خطبته: أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله، وأن تثنوا عليه بما هو أهله، [ ص: 366 ] وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة، فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته، فقال: إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين ولما حضرته الوفاة، وعهد إلى عمر ، دعاه فوصاه بوصية، وأول ما قال له: اتق الله يا عمر . وكتب عمر إلى ابنه عبد الله : أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل، فإنه من اتقاه وقاه، ومن أقرضه جزاه، ومن شكره زاده، فاجعل التقوى نصب عينيك وجلاء قلبك .

                                                                                                                                                                                              واستعمل علي بن أبي طالب رجلا على سرية، فقال له: أوصيك بتقوى الله عز وجل الذي لا بد لك من لقائه، ولا منتهى لك دونه، وهو يملك الدنيا والآخرة .

                                                                                                                                                                                              وكتب عمر بن عبد العزيز إلى رجل: أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل، جعلنا الله وإياك من المتقين . ولما ولي خطب، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: أوصيكم بتقوى الله عز وجل، فإن تقوى الله عز وجل خلف من كل شيء، وليس من تقوى الله خلف .

                                                                                                                                                                                              وقال رجل ليونس بن عبيد: أوصني، فقال: أوصيك بتقوى الله والإحسان . فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون . [ ص: 367 ] وقال له رجل يريد الحج: أوصني، فقال له: اتق الله، فمن اتقى الله فلا وحشة عليه .

                                                                                                                                                                                              وقيل لرجل من التابعين عند موته: أوصنا، فقال: أوصيكم بخاتمة سورة النحل: إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون وكتب رجل من السلف إلى أخ له: أوصيك بتقوى الله، فإنها أكرم ما أسررت، وأزين ما أظهرت، وأفضل ما ادخرت، أعاننا الله وإياك عليها . وأوجب لنا ولك ثوابها .

                                                                                                                                                                                              وكتب رجل إلى أخ له: أوصيك وأنفسنا بالتقوى، فإنها خير زاد الآخرة والأولى، واجعلها إلى كل خير سبيلك، ومن كل شر مهربك، فقد توكل الله عز وجل لأهلها بالنجاة مما يحذرون، والرزق من حيث لا يحتسبون .

                                                                                                                                                                                              وقال شعبة : كنت إذا أردت الخروج، قلت للحكم: ألك حاجة؟ فقال: أوصيك بما أوصى به النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل : "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن " .

                                                                                                                                                                                              وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في دعائه: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفة والغنى " .

                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية