الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 370 ]

                          فصل

                          تمام القول في النظم وأنه توخى معاني النحو

                          442- واعلم أنه وإن كانت الصورة في الذي أعدنا وأبدأنا فيه من أنه لا معنى للنظم غير توخي معاني النحو فيما بين الكلم، قد بلغت في الوضوح والظهور والانكشاف إلى أقصى الغاية، وإلى أن تكون الزيادة عليه كالتكلف لما لا يحتاج إليه، فإن النفس تنازع إلى تتبع كل ضرب من الشبهة يرى أنه يعرض للمسلم نفسه عند اعتراض الشك .

                          443- وإنا لنرى أن في الناس من إذا رأى أنه يجري في القياس وضرب المثل أن تشبه الكلم في ضم بعضها إلى بعض بضم غزل الإبريسم بعضه إلى بعض ورأى أن الذي ينسج الديباج ويعمل النقش والوشي لا يصنع بالإبريسم الذي ينسج منه شيئا غير أن يضم بعضه إلى بعض ويتخير للأصباغ المختلفة المواقع التي يعلم أنه إذا أوقعها فيها حدث له في نسجه ما يريد من النقش والصورة- جرى في ظنه أن حال الكلم في ضم بعضها إلى بعض، وفي تخير المواقع لها، حال خيوط الإبريسم سواء ورأيت كلامه كلام من لا يعلم أنه لا يكون الضم فيها ضما ولا الموقع موقعا، حتى يكون قد توخى فيها معاني النحو وأنك إن عمدت إلى ألفاظ فجعلت تتبع بعضها بعضا من غير أن تتوخى فيها معاني النحو لم تكن صنعت شيئا تدعى به [ ص: 371 ] مؤلفا وتشبه معه بمن عمل نسجا أو صنع على الجملة صنيعا، ولم يتصور أن تكون قد تخيرت لها المواقع .

                          استدلال على أن " النظم " هو توخي معاني النحو وهو مهم

                          444- وفساد هذا وشبهه من الظن ، وإن كان معلوما ظاهرا فإن هاهنا استدلالا لطيفا تكثر بسببه الفائدة، وهو أنه يتصور أن يعمد عامد إلى نظم كلام بعينه فيزيله عن الصورة التي أرادها الناظم له ويفسدها عليه، من غير أن يحول منه لفظا عن موضعه، أو يبدله بغيره، أو يغير شيئا من ظاهر أمره على حال .

                          مثال ذلك أنك إن قدرت في بيت أبي تمام :


                          لعاب الأفاعي القاتلات لعابه وأري الجنى اشتارته أيد عواسل



                          أن " لعاب الأفاعي " مبتدأ و " لعابه " خبر كما يوهمه الظاهر، أفسدت عليه كلامه، وأبطلت الصورة التي أرادها فيه، وذلك أن الغرض أن يشبه مداد قلمه بلعاب الأفاعي على معنى أنه إذا كتب في إقامة السياسات أتلف به النفوس، وكذلك الغرض أن يشبه مداده بأري الجنى على معنى أنه إذا كتب في العطايا والصلات أوصل به إلى النفوس ما تحلو مذاقته عندها، وأدخل السرور واللذة عليها . وهذا المعنى إنما يكون إذا كان " لعابه " مبتدأ ولعاب الأفاعي خبرا . فأما تقديرك أن يكون " لعاب الأفاعي " مبتدأ [ ص: 372 ] و " لعابه " خبرا فيبطل ذلك ويمنع منه البتة، ويخرج بالكلام إلى ما لا يجوز أن يكون مرادا في مثل غرض أبي تمام وهو أن يكون أراد أن يشبه " لعاب الأفاعي " بالمداد ويشبه كذلك الأري به .

                          فلو كان حال الكلم في ضم بعضها إلى بعض كحال غزل الإبريسم لكان ينبغي أن لا تتغير الصورة الحاصلة من نظم كلم حتى تزال عن مواضعها . كما لا تتغير الصورة الحادثة عن ضم غزل الإبريسم بعضه إلى بعض حتى تزال الخيوط عن مواضعها .

                          445- واعلم أنه لا يجوز أن يكون سبيل قوله :


                          لعاب الأفاعي القاتلات لعابه



                          سبيل قولهم : " عتابك السيف " . وذلك أن المعنى في بيت أبي تمام على أنك مشبه شيئا بشيء، وجامع بينهما في وصف . وليس المعنى في " عتابك السيف " على أنك تشبه عتابه بالسيف ولكن على أن تزعم أنه يجعل السيف بدلا من العتاب . أفلا ترى أنه يصح أن تقول : مداد قلمه قاتل كسم الأفاعي، ولا يصح أن تقول : " عتابك كالسيف " اللهم إلا أن تخرج إلى باب آخر وشيء ليس هو غرضهم بهذا الكلام فتريد أنه قد عاتب عتابا خشنا مؤلما . ثم إنك إن قلت : “ السيف عتابك " خرجت به إلى معنى ثالث وهو أن تزعم أن عتابه قد بلغ في إيلامه وشدة تأثيره مبلغا صار له السيف كأنه ليس بسيف .

                          446- واعلم أنه إن نظر ناظر في شأن المعاني والألفاظ إلى حال [ ص: 373 ] السامع، فإذا رأى المعاني تقع في نفسه من بعد وقوع الألفاظ في سمعه، ظن لذلك أن المعاني تبع للألفاظ في ترتيبها . فإن هذا الذي بيناه يريه فساد هذا الظن . وذلك أنه لو كانت المعاني تكون تبعا للألفاظ في ترتيبها لكان محالا أن تتغير المعاني والألفاظ بحالها لم تزل عن ترتيبها، فلما رأينا المعاني قد جاز فيها التغير من غير أن تتغير الألفاظ وتزول عن أماكنها، علمنا أن الألفاظ هي التابعة والمعاني هي المتبوعة .

                          الإشكال في معرفتين هما مبتدأ وخبر، وفصل الإشكال بالمعنى

                          447- واعلم أنه ليس من كلام يعمد واضعه فيه إلى معرفتين فيجعلهما مبتدأ وخبرا ثم يقدم الذي هو الخبر إلا أشكل الأمر عليك فيه، فلم تعلم أن المقدم خبر، حتى ترجع إلى المعنى وتحسن التدبر . أنشد الشيخ أبو علي في " التذكرة " :


                          نم وإن لم أنم كراي كراكا



                          ثم قال : " ينبغي أن يكون " كراي " خبرا مقدما، ويكون الأصل " كراك كراي " أي نم وإن لم أنم فنومك نومي . كما تقول : “ قم وإن [ ص: 374 ] جلست فقيامك قيامي . هذا هو عرف الاستعمال في نحوه . ثم قال : وإذا كان كذلك فقد قدم الخبر وهو معرفة وهو ينوي به التأخير من حيث كان خبرا " . قال : فهو كبيت الحماسة :


                          بنونا بنو أبنائنا وبناتنا     بنوهن أبناء الرجال الأباعد



                          فقدم خبر المبتدأ وهو معرفة . وإنما دل على أنه ينوي التأخير المعنى، ولولا ذلك لكانت المعرفة إذا قدمت هي المبتدأ لتقدمها، فافهم ذلك . هذا كله لفظه .

                          بيان السبب في تعدد أوجه تفسير الكلام

                          448- واعلم أن الفائدة تعظم في هذا الضرب من الكلام، إذا أنت أحسنت النظر فيما ذكرت لك من أنك تستطيع أن تنقل الكلام في معناه عن صورة إلى صورة، من غير أن تغير من لفظه شيئا أو تحول كلمة عن مكانها إلى مكان آخر، وهو الذي وسع مجال التأويل والتفسير، حتى صاروا يتأولون في الكلام الواحد تأويلين أو أكثر ويفسرون البيت الواحد عدة تفاسير وهو على ذاك، الطريق المزلة الذي ورط كثيرا من الناس في الهلكة . وهو مما يعلم به العاقل شدة الحاجة إلى هذا العلم وينكشف معه عوار الجاهل به ويفتضح عنده المظهر الغنى عنه . ذاك لأنه قد يدفع إلى الشيء لا يصح [ ص: 375 ] إلا بتقدير غير ما يريه الظاهر . ثم لا يكون له سبيل إلى معرفة ذلك التقدير إذا كان جاهلا بهذا العلم، فيتسكع عند ذلك في العمى ويقع في الضلال .

                          مثال في تفسير قوله: « قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن »

                          449- مثال ذلك أن من نظر إلى قوله تعالى : « قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى » [ سورة الإسراء : 110 ] . ثم لم يعلم أن ليس المعنى في " ادعوا " الدعاء ولكن الذكر بالاسم كقولك : " هو يدعى زيدا " و " يدعى الأمير " . وأن في الكلام محذوفا وأن التقدير : قل ادعوه الله أو ادعوه الرحمن، أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى- كان بعرض أن يقع في الشرك، من حيث إنه إن جرى في خاطره أن الكلام على ظاهره خرج ذلك به - والعياذ بالله تعالى - إلى إثبات مدعوين تعالى الله عن أن يكون له شريك . وذلك من حيث كان محالا أن تعمد إلى اسمين كلاهما اسم شيء واحد، فتعطف أحدهما على الآخر فتقول مثلا : " ادع لي زيدا الأمير " - و " الأمير " هو زيد . وكذلك محال أن تقول : " أيا ما تدعوا " وليس هناك إلا مدعو واحد لأن من شأن " أي " أن تكون أبدا واحدا من اثنين أو جماعة ومن ثم لم يكن له بد من الإضافة، إما لفظا وإما تقديرا .

                          مثال في قوله « وقالت اليهود عزير ابن الله » بغير تنوين " عزير "

                          450- وهذا باب واسع ومن المشكل فيه قراءة من قرأ « وقالت اليهود عزير ابن الله » [ سورة التوبة :30 ] بغير تنوين، وذلك أنهم قد حملوها على وجهين :

                          [ ص: 376 ]

                          أحدهما أن يكون القارئ له أراد التنوين ثم حذفه لالتقاء الساكنين ولم يحركه كقراءة من قرأ : « قل هو الله أحد الله الصمد » [ سورة الإخلاص : 1، 2 ] بترك التنوين من " أحد " : وكما حكي عن عمارة بن عقيل أنه قرأ « ولا الليل سابق النهار » [ سورة يس :40 ] بالنصب فقيل له : ما تريد؟ فقال : أريد " سابق النهار " . قيل : فهلا قلته؟ فقال : فلو قلته لكان أوزن . وكما جاء في الشعر من قوله :


                          فألفيته غير مستعتب     ولا ذاكر الله إلا قليلا



                          إلى نظائر ذلك . فيكون المعنى في هذه القراءة مثله في القراءة الأخرى سواء .

                          والوجه الثاني : أن يكون الابن صفة، ويكون التنوين قد سقط على حد سقوطه في قولنا : “ جاءني زيد بن عمرو " ويكون في الكلام محذوف . ثم اختلفوا في المحذوف فمنهم من جعله مبتدأ فقدر " وقالت اليهود هو عزير ابن الله " ومنهم من جعله خبرا فقدر " وقالت اليهود عزير ابن الله معبودنا " .

                          وفي هذا أمر عظيم . وذلك أنك إذا حكيت عن قائل كلاما أنت تريد أن تكذبه فيه، فإن التكذيب ينصرف إلى ما كان فيه خبرا دون ما كان صفة .

                          تفسير هذا أنك إذا حكيت عن إنسان أنه قال : زيد بن عمرو [ ص: 377 ] سيد " ثم كذبته فيه، لم تكن قد أنكرت بذلك أن يكون زيد بن عمرو ولكن أن يكون سيدا . وكذلك إذا قال : " زيد الفقيه قد قدم " فقلت له : كذبت أو غلطت لم تكن قد أنكرت أن يكون زيد فقيها ولكن أن يكون قد قدم .

                          هذا ما لا شبهة فيه وذلك أنك إذا كذبت قائلا في كلام أو صدقته فإنما ينصرف التكذيب منك والتصديق إلى إثباته ونفيه . والإثبات والنفي يتناولان الخبر دون الصفة يدلك على ذلك أنك تجد الصفة ثابتة في حال النفي كثبوتها في حال الإثبات . فإذا قلت : “ ما جاءني زيد الظريف، كان الظرف ثابتا لزيد كثبوته إذا قلت : " جاءني زيد الظريف " . وذلك أن ليس ثبوت الصفة للذي هي صفة له بالمتكلم وبإثباته لها فتنتفي بنفيه . وإنما ثبوتها بنفسها وبتقرر الوجود فيها عند المخاطب مثله عند المتكلم لأنه إذا وقعت الحاجة في العلم إلى الصفة كان الاحتياج إليها من أجل خيفة اللبس على المخاطب .

                          تفسير ذلك أنك إذا قلت: " جاءني زيد الظريف " فإنك إنما تحتاج إلى أن تصفه بالظريف إذا كان فيمن يجيء إليك واحد آخر يسمى زيدا . فأنت تخشى إن قلت : “ جاءني زيد " ولم تقل: " الظريف " أن يلتبس على المخاطب فلا يدري : أهذا عنيت أم ذاك وإذا كان الغرض من ذكر الصفة إزالة اللبس والتبيين كان محالا أن تكون غير معلومة عند المخاطب وغير ثابتة . لأنه يؤدي إلى أن تروم تبيين الشيء للمخاطب بوصف هو لا يعلمه في ذلك الشيء. وذلك ما لا غاية وراءه في الفساد .

                          [ ص: 378 ]

                          وإذا كان الأمر كذلك كان جعل الابن صفة في الآية مؤديا إلى الأمر العظيم وهو إخراجه عن موضع النفي والإنكار إلى موضع الثبوت والاستقرار . جل الله تعالى عن شبه المخلوقين وعن جميع ما يقول الظالمون علوا كبيرا .

                          451- فإن قيل : إن هذه قراءة معروفة، والقول بجواز الوصفية في " الابن " كذلك معروف ومدون في الكتب وذلك يقتضي أن يكونوا قد عرفوا في الآية تأويلا يدخل به الابن في الإنكار مع تقدير الوصفية فيه .

                          قيل : إن القراءة كما ذكرت معروفة، والقول بجواز أن يكون الابن صفة مثبت مسطور في الكتب كما قلت . ولكن الأصل الذي قدمناه من أن الإنكار إذا لحق لحق الخبر دون الصفة، ليس بالشيء الذي يعترض فيه شك أو تتسلط عليه شبهة . فليس يتجه أن يكون الابن صفة ثم يلحقه الإنكار مع ذلك، إلا على تأويل غامض، وهو أن يقال : إن الغرض الدلالة على أن اليهود قد كان بلغ من جهلهم ورسوخهم في هذا الشرك أنهم كانوا يذكرون " عزيرا " هذا الذكر . كما تقول في قوم تريد أن تصفهم بأنهم قد استهلكوا في أمر صاحبهم وغلوا في تعظيمه : إني أراهم قد اعتقدوا أمرا عظيما فهم يقولون أبدا " زيد الأمير " تريد أنه كذلك يكون ذكرهم إذا ذكروه إلا أنه إنما يستقيم هذا التأويل فيه إذا أنت لم تقدر له خبرا معينا، ولكن تريد أنهم كانوا لا يخبرون عنه بخبر إلا كان ذكرهم له هكذا .

                          [ ص: 379 ]

                          مثال آخر في بيان قوله : « ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم »

                          452 - ومما هو من هذا الذي نحن فيه قوله تعالى : « ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم » [ سورة النساء : 171 ] وذلك أنهم قد ذهبوا في رفع " ثلاثة " إلى أنها خبر مبتدأ محذوف وقالوا : إن التقدير " ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة " وليس ذلك بمستقيم . وذلك أنا إذا قلنا : " ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة " كان ذلك - والعياذ بالله - شبه الإثبات أن هاهنا آلهة من حيث إنك إذا نفيت فإنما تنفي المعنى المستفاد من الخبر عن المبتدأ ولا تنفي معنى المبتدأ . فإذا قلت : “ ما زيد منطلقا " كنت نفيت الانطلاق الذي هو معنى الخبر عن " زيد " ولم تنف معنى زيد ولم توجب عدمه . وإذا كان ذلك كذلك فإذا قلنا : " ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة " كنا قد نفينا أن تكون عدة الآلهة ثلاثة ولم ننف أن تكون آلهة - جل الله تعالى عن الشريك والنظير - كما أنك إذا قلت : “ ليس أمراؤنا ثلاثة " كنت قد نفيت أن تكون عدة الأمراء ثلاثة ولم تنف أن يكون لكم أمراء هذا ما لا شبهة فيه. وإذا أدى هذا التقدير إلى هذا الفساد وجب أن يعدل عنه إلى غيره والوجه - والله أعلم - أن تكون " ثلاثة " صفة مبتدأ لا خبر مبتدأ ويكون التقدير : " ولا تقولوا: لنا آلهة ثلاثة أو في الوجود آلهة ثلاثة ثم حذف الخبر الذي هو " لنا " أو في الوجود كما حذف من لا إله إلا الله و « وما من إله إلا الله » [ سورة آل عمران : 62 ] فبقي : ولا تقولوا : آلهة ثلاثة ثم حذف الموصوف الذي هو آلهة فبقي " ولا تقولوا ثلاثة " . وليس في حذف ما قدرنا حذفه ما يتوقف في صحته . أما حذف الخبر الذي قلنا إنه " لنا " أو " في الوجود " فمطرد في كل ما معناه التوحيد، ونفي أن يكون مع الله - تعالى عن ذلك - إله .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية