الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
أم

حرف عطف نائب عن تكرير الاسم والفعل ، نحو : أزيد عندك أم عمرو ؟ وقيل : [ ص: 158 ] إنما تشرك بين المتعاطفين كما تشرك بينها " أو " . وقيل : فيها معنى العطف . وهي استفهام كالألف ، إلا أنها لا تكون في أول الكلام لأجل معنى العطف . وقيل : هي " أو " أبدلت من الواو ، ليحول إلى معنى . يريد إلى معنى " أو " .

وهي قسمان : متصلة ومنفصلة . فالمتصلة هي الواقعة في العطف ، والوارد بعدها وقبلها كلام واحد ، والمراد بها الاستفهام عن التعيين ، فلهذا يقدر بأي ، وشرطها أن تتقدمها همزة الاستفهام ، ويكون ما بعدها مفردا أو في تقديره .

والمنفصلة ما فقد فيها الشرطان ، أو أحدهما ، وتقدر بل والهمزة . ثم اختلف النحاة في كيفية تقدير المنفصلة في ثلاثة مذاهب حكاها الصفار .

- ( أحدها ) : أنها تقدر بهما وهي بمعناهما ، فتفيد الإضراب عما قبلها على سبيل التحول والانتقال كـ ( بل ) ، والاستفهام عما بعدها ، ومن ثم لا يجوز أن تستفهم مبتدئا كلامك بـ " أم " . ولا تكون إلا بعد كلام لإفادتها الإضراب كما تقدم . قال أبو الفتح : والفارق بينها وبين " بل " أن ما بعد " بل " منفي ، وما بعد " أم " مشكوك فيه .

( والثاني ) أنها بمنزلة " بل " خاصة ، والاستفهام محذوف بعدها ، وليست هي مفيدة الاستفهام ، وهو قول الفراء في معاني القرآن .

( والثالث ) أنها بمعنى الهمزة والإضراب مفهوم من أخذك في كلام آخر وترك الأول .

قال الصفار : فأما الأول فباطل ، لأن الحرف لا يعطي في حيز واحد أكثر من معنى واحد ، فيبقى الترجيح بين المذهبين ، وينبغي أن يرجح الأخير ، لأنه ثبت من كلامهم إنها [ ص: 159 ] لإبل أم شاء . ويلزم على القول الثاني حذف همزة الاستفهام في الكلام ، وهو من مواضع الضرورة ، قال : والصحيح أنها لا تخلو عن الاستفهام ، وكذلك قال سيبويه انتهى .

واعلم أن المتصلة يصير معها الاسمان بمنزلة أي ، ويكون ما ذكر خبرا عن أي ، فإذا قلت : أزيد عندك أم عمرو ؟ فالمعنى : أيهما عندك ؟ والظرف خبر لهما . ثم المتصلة تكون في عطف المفرد على مثله ، نحو : أزيد عندك أم عمرو ؟ كقوله تعالى : ( أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ) ( يوسف : 39 ) أي : أي المعبودين خير ؟ وفي عطف الجملة على الجملة المتأولتين بالمفرد ، نحو : ( أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون ) ( الواقعة : 72 ) أي الحال هذه أم هذه ؟ والمنقطعة إنما تكون على عطف الجمل ، وهي في الخبر والاستفهام بمثابة " بل " والهمزة ، ومعناها في القرآن التوبيخ كما كان في الهمزة كقوله تعالى : ( أم اتخذ مما يخلق بنات ) ( الزخرف : 16 ) أي بل أتخذ ؟ لأن الذي قبلها خبر ، والمراد بها التوبيخ لمن قال ذلك وجرى على كلام العباد . وقوله : ( الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه ) ( السجدة : 1 - 2 ) ثم قال : ( أم يقولون افتراه ) ( السجدة : 3 ) تقديره : بل أيقولون ؟ كذا جعلها سيبويه منقطعة لأنها بعد الخبر .

ثم وجه اعتراضا كيف يستفهم الله سبحانه وتعالى عن قولهم هذا ؟ وأجيب بأنه جاء في كلام العرب ، يريد أن في كلامهم يكون المستفهم محققا للشيء ، لكن يورده بالنظر إلى المخاطب كقوله : ( فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ) ( طه : 44 ) وقد علم الله أنه لا يتذكر ولا يخشى ، لكنه أراد لعله يفعل ذلك في [ ص: 160 ] رجائكما . وقوله : ( أم اتخذ مما يخلق بنات ) ( الزخرف : 16 ) تقديره بل أتخذ ؟ بهمزة منقطعة للإنكار .

وقد تكون بمعنى " بل " من غير استفهام ، كقوله تعالى : ( أمن خلق السماوات والأرض ) ( النمل : 60 ) وما بعدها في سورة النمل .

قال ابن طاهر : ولا يمتنع عندي إذا كانت بمعنى " بل " أن تكون عاطفة ، كقوله تعالى : ( أم يقولون شاعر ) ( الطور : 30 ) وقوله : ( أم كان من الغائبين ) ( النمل : 20 ) .

وقال البغوي في قوله : ( أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ) ( الزخرف : 52 ) بمعنى " بل " وليس بحرف عطف ، على قول أكثر المفسرين . وقال الفراء : وقوم من أهل المعاني : الوقف على قوله " أم " ، وحينئذ تم الكلام ، وفي الآية إضمار ، والأصل ( أفلا تبصرون ) ( الزخرف : 51 ) أم تبصرون ؟ ثم ابتدأ فقال : ( أنا خير ) ( الزخرف : 52 ) .

قلت : فعلى الأول تكون منقطعة ، وعلى الثاني متصلة . وفيها قول ثالث ، قال أبو زيد : إنها زائدة ، وإن التقدير : أفلا تبصرون أنا خير منه !

والمشهور أنها منقطعة ، لأنه لا يسألهم عن استواء علمه في الأول والثاني ، لأنه إنما أدركه الشك في تبصرهم بعد ما مضى كلامه على التقرير ، وهو مثبت ، وجواب السؤال " بلى " ، فلما أدركه الشك في تبصرهم قال : ( أم أنا خير ) .

[ ص: 161 ] وسأل ابن طاهر شيخه أبا القاسم بن الرماك : لم لم يجعل سيبويه أم متصلة ؟ أي " أفلا تبصرون أم تبصرون " ؟ أي : أي هذين كان منكم ؟ فلم يحر جوابا ، وغضب وبقي جمعة لا يقرر حتى استعطفه .

والجواب من وجهين : أحدهما : أنه ظن أنهم لا يبصرون ، فاستفهم عن ذلك ، ثم ظن أنهم يبصرون ؛ لأنه معنى قوله : ( أم أنا خير من ) فأضرب عن الأول واستفهم ، كذلك : أزيد عندك أم لا ؟ . ( والثاني ) : أنه لو كان الإبصار وعدمه متعادلين لم يكن للبدء بالنفي معنى ، فلا يصح إلا أن تكون منقطعة .

وقد تحتمل المتصلة والمنقطعة ، كما قال في قوله تعالى : ( أم تريدون ) ( البقرة : 108 ) . قال الواحدي : إن شئت جعلت قبله استفهاما رد عليه ، وهو قوله : ( ألم تعلم ) ( البقرة : 106 ) وإن شئت منقطعة عما قبلها مستأنفا بها الاستفهام ، فيكون استفهاما متوسطا في اللفظ ، مبتدأ في المعنى ، كقوله تعالى : ( أليس لي ملك مصر ) ( الزخرف : 51 ) الآية ، ثم قال : ( أم أنا خير ) ( الزخرف : 52 ) انتهى .

والتحقيق ما قاله أبو البقاء إنها ههنا منقطعة إذ ليس في الكلام همزة تقع [ ص: 162 ] موقعها ، وموقع " أم " " أيهما " والهمزة في قوله : ( ألم تعلم ) ليست من " أم " في شيء ، والتقدير : بل أتريدون أن تسألوا ؟ فخرج بـ " أم " من كلام إلى آخر .

وقد تكون بمعنى " أو " كما في قوله تعالى : ( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم ) ( الملك : 16 - 17 ) . وقوله : ( أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى ) ( الإسراء : 68 - 69 ) .

ومعنى ألف الاستفهام عند أبي عبيد كقوله تعالى : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم ) ( البقرة : 108 ) أي تريدون ؟ وقوله : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ) ( البقرة : 211 ) . وقوله : ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) ( النساء : 54 ) أي : أيحسدون ؟ وقوله : ( ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار ) ( ص : 62 - 63 ) أي أزاغت عنهم الأبصار ؟ وقوله : ( أم له البنات ولكم البنون ) ( الطور : 39 ) أي أله ؟ ( أم تسألهم أجرا ) أي : أتسألهم أجرا ؟

وقوله : ( أم حسبت أن أصحاب الكهف ) ( الكهف : 9 ) قيل : أي أظننت هذا ؟ ومن عجائب ربك ما هو أعجب من قصة أصحاب الكهف . وقيل : بمعنى ألف الاستفهام ، كأنه قال : أحسبت ؟ وحسبت بمعنى الأمر ، كما تقول لمن تخاطبه : أعلمت أن زيدا خرج ، بمعنى الأمر ، أي اعلم أن زيدا خرج ، فعلى هذا التدريج يكون معنى الآية : اعلم يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم .

[ ص: 163 ] وقال أبو البقاء في قوله تعالى : ( أم اتخذ مما يخلق بنات ) ( الزخرف : 16 ) تقديره : بل " أتخذ ! " بهمزة مقطوعة على الإنكار ، ولو جعلناه همزة وصل لصار إثباتا ، تعالى الله عز وجل عن ذلك ، ولو كانت " أم " المنقطعة بمعنى " بل " وحدها دون الهمزة ، وما بعد " بل " متحقق فيصير ذلك في الآية متحققا تعالى الله عن ذلك

التالي السابق


الخدمات العلمية