الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 251 ] المسألة ] السادسة [ خطاب المواجهة ، هل يشمل المعدومين ؟ ]

                                                      الخطاب الوارد شفاها في عصر النبي عليه السلام مثل : يا أيها الناس ، ويا أيها الذين آمنوا ، ويسمى خطاب المواجهة ، لا خلاف في شموله لمن بعدهم من المعدومين حال صدوره ، لكن هل هو باللفظ أو بدليل آخر من إجماع أو قياس ؟ فذهب جماعة من الحنفية والحنابلة إلى أنه من اللفظ ، وذهب الأكثرون إلى الثاني ، وأن شمول الحكم لمن بعدهم [ بالإجماع أو القياس ] والحق أنه مما عرف بالضرورة من دينه عليه السلام ، أن كل حكم تعلق بأهل زمانه فهو شامل لجميع الأمة إلى يوم القيامة .

                                                      قال أبو الحسين بن القطان : هم مكلفون لا من الخطاب ، ولكن لما كانت الرسالة راجعة إلى سائر القرون كانوا سواء ، قال تعالى : { لأنذركم به ومن بلغ } وقوله : { بعثت إلى الناس كافة } . قلت : وأصرح منهما قوله تعالى : { هو الذي بعث في [ ص: 252 ] الأميين رسولا } إلى قوله { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم }

                                                      وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد : من قال بخصوصه بالمخاطبين ينبغي أن يعتبر فيه أحوال المخاطبين ، ولا يدخل في خطابهم من ليس بصفتهم إلا بدليل من خارج ، وهذا غير الاختصاص بأعيانهم ، وهو أعلى مرتبة منه ، لأن اعتبار الأعيان في الأحكام محمول غالبا غلبة كثيرة .

                                                      ويحتمل أن يقال : لا تعتبر أحوالهم وصفاتهم إلا أن يحتمل اعتبارها لمناسبة أو غيرها ، والأليق بالتخصيص الأول .

                                                      وقال في " شرح العنوان " : الخلاف في أن خطاب المشافهة هل يشمل غير المخاطبين قليل الفائدة ، ولا ينبغي أن يكون فيه خلاف عند التحقيق ، لأنه إما أن ينظر إلى مدلول اللفظ لغة ، ولا شك أنه لا يتناول غير المخاطب ، وإما أن يقال : إن الحكم يقتصر على غير المخاطب إلا أن يدل دليل على العموم في تلك المسألة بعينها ، وهذا باطل لما علم قطعا من الشريعة أن الأحكام عامة إلا حيث يرد التخصيص .

                                                      واعلم أنه عبر جماعة عن هذه المسألة بأن الخطاب مع الموجودين في زمنه عليه السلام لا يتناول من بعدهم إلا بدليل منفصل ، وذكرها بعضهم أخص من هذا وفرض المسألة في : يا أيها الناس ، ويا أيها الذين آمنوا ، كما ذكرنا .

                                                      وقال بعض المتأخرين : الألفاظ لها حالتان : تارة تكون محكوما بها ، [ ص: 253 ] نحو زيد قائم ، أو مخاطبة بخطاب المواجهة نحو يا زيد ، وتارة تكون متعلق الحكم ، نحو اصحب العلماء فالمسميات في الحالة الأولى يجب أن تكون موجودة حال الحكم أو الخطاب ، فإن القضاء بالحقيقة في الخارج فرع وجودها ، وكذلك المتكلم معها ، ومدارها في الحالة الثانية لا يجب أن تكون موجودة في الخارج ، بل اللفظ حقيقة فيما وجد وسيوجد منها ، كقول الوالد لولده : اصحب العلماء ، لا فرق فيه بين من يكون عالما حال الخطاب ، وبين من سيصير عالما بعد ذلك ، وكذلك اقطعوا السارق وحدوا الزناة ، واقتلوا المشركين ، لقيام الإجماع على نحو { قاتلوا الذين لا يؤمنوا بالله } وقوله : { والسارق والسارقة } { الزانية والزاني } يتناول مشركي زماننا ، وسراقهم ، وزن لا على وجه المجاز ، لكن اتفقوا أيضا على أن الاتصاف بالصفة المشتقة لمن لم تعم به بالنسبة إلى قيامها في المستقبل مجاز ، كما في قوله تعالى : { إنك ميت وإنهم ميتون } ولا طريق إلى الجمع بين هذين الاتفاقين إلا ما ذكرناه من كون الصفة محكوما بها ، وكونها متعلق الحكم .

                                                      وقد اعترض النقشواني في " تلخيص المحصول " على هذه المسألة بقول الأصوليين : إن المعدوم يكون مخاطبا بالخطاب السابق ، ولم يفرقوا بين خطاب المشافهة وغيره ، وهو غفلة منهم ، لأن تلك المسألة إنما هي في الكلام النفسي ، والكلام النفسي له تعلق بمن سيوجد على تقدير وجوده ، وتعلق الكلام النفساني ليس من باب أوضاع اللغة في شيء بل هو أمر عقلي ، ولذلك مثلوه بأن أحدنا يجد في نفسه طلب الاشتغال بالعلم ، والذي من ولد سيوجد له على تقدير وجوده ، بخلاف هذه المسألة ، فإن معتمد القول بأن خطاب المشابهة لا يتناول المعدوم ، أن العرب لم تضع مثل : قوموا ، ولا عليكم أنفسكم خطابا للمعدوم ; بل ولا للموجود الغائب ، بل الحاضر [ ص: 254 ] القريب . والحاصل أن البحث في هذه المسألة لغوي ، وتلك عقلي ، فلا تناقض بينهما . وممن أورد هذا السؤال أيضا صاحب " البديع " ، وأجاب عنه بأن الكلام ثم في تسميته أمرا ، وهنا في تسميته خطابا ، ولا تلازم بينهما ، فإن معنى تعلق الأمر بالمعدوم التعلق العلمي لا التنجيزي ، ولا يجوز أن يسمى خطابا ; لأنه عبارة عما قصد به إفهام من هو متهيئ للفهم ، وهو غير ممكن في المعدوم ، وهذا إنما يتم إذا قلنا : إن كلام الله في الأزل لا يسمى خطابا ، فإن قلنا يسمى فلا فرق بينهما ، والظاهر أن الذي قال بتناول الخطاب للمعدوم زمن النبي عليه السلام أراد به التناول عند صيرورته أهلا للخطاب كما في الأمر ، لا أنه حال عدمه مخاطب بمعنى يفهمه في ذلك الوقت .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية