الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما قدم سبحانه ذكر نعمه إجمالا أراد أن يفصل ليكون أبلغ في التذكير، وأعظم في الحجة، فقال : وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب وهو على الشافع عطف على (نعمتي) بتقدير: اذكروا [ ص: 253 ] كيلا يلزم الفصل بين المعطوفين بأجنبي، وهو (اتقوا)، وقد تقدم قبل ما ينفعك هنا، وقرئ (أنجيناكم) و(أنجيتكم) ونسبت الأولى للنخعي، والآل قيل : بمعنى الأهل، وإن ألفه بدل عن هاء، وإن تصغيره أهيل، وبعضهم ذهب إلى أن ألفه بدل من همزة ساكنة، وتلك الهمزة بدل من هاء، وقيل : ليس بمعنى الأهل، لأن الأهل القرابة، والآل من يؤول إليك في قرابة، أو رأي، أو مذهب، فألفه بدل من واو، ولذلك قال يونس في تصغيره : أويل، ونقله الكسائي نصا عن العرب، وروي عن أبي عمر غلام ثعلب: إن الأهل القرابة، كان لها تابع أو لا، والآل القرابة بتابعها، فهو أخص من الأهل، وقد خصوه أيضا بالإضافة إلى أولي الخطر فلا يضاف إلى غير العقلاء، وإلى من لا خطر له منهم، فلا يقال: آل الكوفة ولا آل الحجام، وزاد بعضهم اشتراط التذكير فلا يقال: آل فاطمة، ولعل كل ذلك أكثري، وإلا فقد ورد على خلاف ذلك كآل أعوج اسم فرس، وآل المدينة ، وآل نعم، وآل الصليب، وآلك، ويستعمل غير مضاف، كـهم خير آل، ويجمع كأهل فيقال آلون، وفرعون لقب لمن ملك العمالقة ككسرى لملك الفرس، وقيصر لملك الروم، وخاقان لملك الترك، وتبع لملك اليمن، والنجاشي لملك الحبشة، وقال السهيلي : هو اسم لكل من ملك القبط، ومصر ، وهو غير منصرف للعلمية والعجمة، وقد اشتق منه باعتبار ما يلزمه، فقيل : تفرعن الرجل إذا تجبر وعتا، واسم فرعون هذا الوليد بن مصعب، قاله ابن إسحاق، وأكثر المفسرين، وقيل أبوه مصعب بن ريان حكاه ابن جرير ، وقيل : قنطوس، حكاه مقاتل، وذكر وهب بن منبه أن أهل الكتابين قالوا: إن اسمه قابوس، وكنيته أبو مرة، وكان من القبط، وقيل : من بني عمليق أو عملاق بن لاوز بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، وهم أمم تفرقوا في البلاد، وروي أنه من أهل اصطخر، ورد إلى مصر فصار بها ملكا، وقيل : كان عطارا بأصفهان، ركبته الديون، فدخل مصر ، وآل أمره إلى ما آل، وحكاية البطيخ شهيرة، وقد نقلها مولانا مفتي الديار الرومية في تفسيره، والصحيح أنه غير فرعون يوسف عليه السلام، وكان اسمه على المشهور الريان بن الوليد، وقد آمن بيوسف، مات في حياته، وهو من أجداد فرعون المذكور على قول، ويؤيد الغيرية أن بين دخول يوسف ودخول موسى عليهما السلام أكثر من أربعمائة سنة، والمراد بآل فرعون هنا أهل مصر ، أو أهل بيته خاصة، أو أتباعه على دينه، وبـأنجيناكم، أنجينا آباءكم، وكذا نظائره، فلا حجة فيها لتناسخي، وهذا في كلام العرب شائع كقول حسان :


                                                                                                                                                                                                                                      ونحن قتلناكم ببدر فأصبحت عساكركم في الهالكين تجول

                                                                                                                                                                                                                                      (ويسومونكم) من السوم، وأصله الذهاب للطلب، ويستعمل للذهاب وحده تارة، ومنه السائمة، وللطلب أخرى، ومنه السوم في البيع، ويقال : سامه كلفه العمل الشاق، والسوء مصدر ساء يسوء، ويراد به السيء، ويستعمل في كل ما يقبح، كأعوذ بالله تعالى من سوء الخلق، (وسوء العذاب) أفظعه وأشده بالنسبة إلى سائره، وهو منصوب على المفعولية، ليسومونكم بإسقاط حرف الجر، أو بدونه، والجملة يحتمل أن تكون مستأنفة، وهي حكاية حال ماضية، ويحتمل أن تكون في موضع الحال من ضمير أنجيناكم، أو من آل فرعون، وهو الأقرب، والمعنى: يولونكم أو يكلفونكم الأعمال الشاقة، والأمور الفظيعة، أو يرسلونكم إليها، ويصرفونكم فيها، أو يبغونكم سوء العذاب المفسر بما بعده، وقد حكي أن فرعون جعل بني إسرائيل خدما وخولا، وصنفهم في الأعمال، فصنف يبنون، وصنف يحرثون، وصنف يخدمون، ومن لم يكن منهم في عمل وضع عليه الجزية يؤديها كل يوم، ومن غربت عليه الشمس قبل أن يؤديها غلت يده إلى عنقه شهرا، وجعل النساء يغزلن الكتان وينسجن، يذبحون أبناءكم جملة حالية أو استئنافية كأنه قيل : ما الذي ساموهم إياه فقال : [ ص: 254 ] (يذبحون) إلخ، ويجوز أن تخرج على إبدال الفعل من الفعل كما في قوله تعالى : يلق أثاما يضاعف له العذاب وقيل : بالعطف، وحذف حرفه لآية إبراهيم، والمحققون على الفرق، وحملوا (سوء العذاب) فيها على التكاليف الشاقة غير الذبح، وعطف للتغاير، واعتبر هناك لا هنا على رأيهم لسبق وذكرهم بأيام الله وهو يقتضي التعداد، وليس هنا ما يقتضيه، والأبناء الأطفال الذكور، وقيل: إنهم الرجال، هذا وسموا أبناء باعتبار ما كانوا قبل، وفي بعض الأخبار أنه قتل أربعين ألف صبي، وحكي أنه كان يقتل الرجال الذين يخاف منهم الخروج والتجمع لإفساد أمره، والمشهور حمل الأبناء على الأول، وهو المناسب المتبادر، وفي سبب ذلك أقوال وحكايات مختلفة، ومعظمها يدل على أن فرعون خاف من ذهاب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل، ففعل ما فعل، وكان أمر الله قدرا مقدورا، وقرأ الزهري وابن محيصن (يذبحون) مخففا، وعبد الله (يقتلون) مشددا، ويستحيون نساءكم عطف على يذبحون أي يستبقون بناتكم، ويتركونهن حيات وقيل : يفتشون في حيائهن ينظرون هل بهن حمل، والحياء الفرج، لأنه يستحى من كشفه، والنساء جمع المرأة، وفي البحر إنه جمع تكسير لنسوة على وزن فعلة، جمع قلة، وزعم ابن السراج أنه اسم جمع، وعلى القولين لم يلفظ له بواحد من لفظه، وهي في الأصل البالغات دون الصغائر، فهي على الوجه الأول مجاز باعتبار الأول للإشارة إلى أن استبقاءهم كان لأجل أن يصرن نساء لخدمتهم، وعلى الثاني فيه تغليب البالغات على الصغائر، وعلى الثالث حقيقة، وقدم الذبح لأنه أصعب الأمور، وأشقها عند الناس، وإن كان ذلك الاستحياء أعظم من القتل لدى الغيور.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم إشارة إلى التذبيح والاستحياء، أو إلى الإنجاء، وجمع الضمير للمخاطبين، ويجوز أن يشار (بذلكم) إلى الجملة، وأصل البلاء الاختبار، وإذا نسب إليه تعالى يراد منه ما يجري مجراه مع العباد على المشهور، وهو تارة يكون بالمسار ليشكروا، وتارة بالمضار ليصبروا، وتارة بهما ليرغبوا، ويرهبوا، فإن حملت الإشارة على المعنى الأول فالمراد بالبلاء المحنة، وإن على الثاني فالمراد به النعمة، وإن على الثالث فالمراد به القدر المشترك كالامتحان الشائع بينهما، ويرجح الأول التبادر، والثاني أنه في معرض الامتنان، والثالث لطف جمع الترغيب والترهيب، ومعنى من ربكم من جهته تعالى إما بتسليطهم عليكم، أو ببعث موسى عليه السلام وتوفيقه لتخليصكم، أو بهما جميعا، (وعظيم) صفة بلاء، وتنكيرهما للتفخيم، والعظم بالنسبة للمخاطب والسامع لا بالنسبة إليه تعالى، لأنه العظيم الذي لا يستعظم شيئا،

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية