الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذ قلتم : تذكير لجناية أخرى لأسلافهم؛ وكفرانهم لنعمة الله - عز وجل -؛ وإخلادهم إلى ما كانوا فيه من الدناءة؛ والخساسة. وإسناد القول المحكي إلى أخلافهم؛ وتوجيه التوبيخ إليهم لما بينهم من الاتحاد.

                                                                                                                                                                                                                                      يا موسى لن نصبر على طعام واحد : لعلهم لم يريدوا بذلك جمع ما طلبوا مع ما كان لهم من النعمة؛ ولا زوالها وحصول ما طلبوا مكانها؛ إذ يأباه التعرض للوحدة؛ بل أرادوا أن يكون هذا تارة؛ وذاك أخرى؛ روي أنهم كانوا فلاحة؛ فنزعوا إلى عكرهم؛ فأجموا ما كانوا فيه من النعمة العتيدة؛ لوحدتها النوعية؛ وإطرادها؛ وتاقت أنفسهم إلى الشقاء.

                                                                                                                                                                                                                                      فادع لنا ربك : أي: سله لأجلنا بدعائك إياه؛ والفاء لسببية عدم الصبر للدعاء. والتعرض لعنوان الربوبية لتمهيد مبادي الإجابة.

                                                                                                                                                                                                                                      يخرج لنا : أي: يظهر لنا؛ ويوجد؛ والجزم لجواب الأمر؛ مما تنبت الأرض : إسناد مجازي بإقامة القابل مقام الفاعل؛ و"من" تبعيضية؛ والتي في قوله (تعالى): من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها : بيانية؛ واقعة موقع الحال؛ أي: كائنا من بقلها؛ إلخ.. وقيل: بدل؛ بإعادة الجار. والبقل: ما تنبت الأرض من الخضر؛ والمراد أطايبه؛ التي تؤكل؛ كالنعناع؛ والكرفس؛ والكراث؛ وأشباهها. والفوم: الحنطة؛ وقيل: الثوم؛ وقرئ: "قثائها"؛ بضم القاف؛ وهو لغة فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      قال : أي: الله (تعالى)؛ أو: موسى - عليه السلام -؛ [ ص: 107 ] إنكارا عليهم؛ وهو استئناف وقع جوابا عن سؤال مقدر؛ كأنه قيل: فماذا قال لهم؟ فقيل: قال: أتستبدلون ؛ أي: أتأخذون لأنفسكم؛ وتختارون؛ الذي هو أدنى ؛ أي: أقرب منزلة؛ وأدون قدرا؛ سهل المنال؛ وهين الحصول؛ لعدم كونه مرغوبا فيه؛ وكونه تافها؛ مرذولا؛ قليل القيمة. وأصل الدنو: القرب في المكان؛ فاستعير للخسة؛ كما استعير البعد للشرف؛ والرفعة؛ فقيل: بعيد المحل؛ وبعيد الهمة. وقرئ: "أدنأ"؛ من "الدناءة"؛ وقد حملت المشهورة على أن ألفها مبدلة من الهمزة؛ بالذي هو خير : أي: بمقابلة ما هو خير؛ فإن الباء تصحب الذاهب الزائل؛ دون الآتي الحاصل؛ كما في التبديل؛ في مثل قوله - عز وجل -: ومن يتبدل الكفر بالإيمان ؛ وقوله: وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط ؛ وليس فيه ما يدل قطعا على أنهم أرادوا زوال المن والسلوى بالمرة؛ وحصول ما طلبوا مكانه؛ كتحقيق الاستبدال؛ فيما مر من صورة المناوبة.

                                                                                                                                                                                                                                      اهبطوا مصرا : أمروا به بيانا لدناءة مطلبهم؛ أو إسعافا لمرامهم؛ أي: انحدروا إليه من التيه؛ يقال: "هبط الوادي"؛ وقرئ بضم الباء؛ و"المصر": البلد العظيم؛ وأصله الحد بين الشيئين؛ وقيل: أريد به العلم؛ وإنما صرف لسكون وسطه؛ أو لتأويله بالبلد دون المدينة؛ ويؤيده أنه في مصحف ابن مسعود - رضي الله عنه - غير منون؛ وقيل: أصله "مصراييم"؛ فعرب.

                                                                                                                                                                                                                                      فإن لكم ما سألتم : تعليل للأمر بالهبوط؛ أي: فإن لكم فيه ما سألتموه؛ ولعل التعبير عن الأشياء المسؤولة بـ "ما" للاستهجان بذكرها؛ كأنه قيل: فإنه كثير فيه؛ مبتذل؛ يناله كل أحد بغير مشقة.

                                                                                                                                                                                                                                      وضربت عليهم الذلة والمسكنة : أي: جعلتا محيطتين بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه؛ أو ألصقتا بهم؛ وجعلتا ضربة لازب؛ لا تنفكان عنهم؛ مجازاة لهم على كفرانهم؛ من ضرب الطين على الحائط؛ بطريق الاستعارة بالكناية؛ واليهود في غالب الأمر أذلاء مساكين؛ إما على الحقيقة؛ وإما لخوف أن تضاعف جزيتهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وباءوا : أي: رجعوا؛ بغضب ؛ عظيم؛ وقوله (تعالى): من الله : متعلق بمحذوف؛ هو صفة لـ "غضب"؛ مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية؛ بالفخامة الإضافية؛ أي: بغضب كائن من الله (تعالى)؛ أو صاروا أحقاء به؛ من قولهم: "باء فلان بفلان"؛ أي: صار حقيقا بأن يقتل بمقابلته؛ ومنه قول من قال: بؤ بشسع نعل كليب؛ وأصل البوء: المساواة.

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك : إشارة إلى ما سلف من ضرب الذلة والمسكنة؛ والبوء بالغضب العظيم؛ بأنهم : بسبب أنهم؛ كانوا يكفرون ؛ على الاستمرار؛ بآيات الله ؛ الباهرة التي هي المعجزات الساطعة؛ الظاهرة على يد موسى - عليه السلام - مما عد؛ وما لم يعد.

                                                                                                                                                                                                                                      ويقتلون النبيين بغير الحق كشعيا؛ وزكريا؛ ويحيى - عليهم السلام -؛ وفائدة التقييد - مع أن قتل الأنبياء يستحيل أن يكون بحق - الإيذان بأن ذلك عندهم أيضا بغير الحق؛ إذ لم يكن أحد معتقدا بحقية قتل أحد منهم - عليهم السلام -؛ وإنما حملهم على ذلك حب الدنيا؛ واتباع الهوى؛ والغلو في العصيان؛ والاعتداء؛ كما يفصح عنه قوله (تعالى): ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ؛ أي: جرهم العصيان؛ والتمادي في العدوان إلى ما ذكر من الكفر؛ وقتل الأنبياء - عليهم السلام -؛ فإن صغار الذنوب إذا دووم عليها أدت إلى كبارها؛ كما أن مداومة صغار الطاعات مؤدية إلى تحري كبارها؛ وقيل: كررت الإشارة للدلالة على أن ما لحقهم - كما أنه بسبب الكفر؛ والقتل -؛ فهو بسبب ارتكابهم المعاصي؛ واعتدائهم حدود الله (تعالى)؛ وقيل: الإشارة إلى الكفر؛ والقتل. والباء بمعنى "مع"؛ ويجوز الإشارة إلى المتعدد بالمفرد؛ بتأويل ما ذكر؛ أو تقدم؛ كما في قول رؤبة بن العجاج:


                                                                                                                                                                                                                                      فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق



                                                                                                                                                                                                                                      أي: كان ما ذكر؛ والذي حسن ذلك في المضمرات والمبهمات [ ص: 108 ]

                                                                                                                                                                                                                                      أن تثنيتها وجمعها ليسا على الحقيقة؛ ولذلك جاء "الذي" بمعنى "الذين".

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية