الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى: يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج (189):

فاستدل بعض الحنفية، على كون جميع شهور السنة مواقيت للحج، كما كانت بأسرها مواقيت للناس، ولزمهم من هذا أن يكون الحج المطلق عبارة عن الإحرام فقط، دون سائر الأفعال، مع أن الإحرام عندهم، ليس من الحج، بل هو شرط الحج، والذي هو الحج من طواف القدوم في غير أشهر الحج، وسعي، لم يجز إجماعا، فإذا علم، ذلك فحمل اللفظ على بعض الشهور، أولى من حمل الحج المطلق على الإحرام الذي ليس من الحج، وإنما هو طريق إليه وشرط له، ولأن الله تعالى لم يرد جعل الأهلة ميقاتا للحج، باعتبار كونها أهلة، فإن الإحرام ليس يتعين له أول الشهر، ولا المواقيت أيضا، وإنما الأهلة عبارة عن جملة الشهر، فإن السائل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أجمع عليه أهل التفسير وقال: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو مستدقا، ثم ينمو حتى يتكامل ثم ينقص.

وكان السؤال من معاذ بن جبل رضي الله عنه عن زيادة القمر ونقصانه، فأخبر الله تعالى أن الحكمة في زيادته ونقصانه، زوال الالتباس [ ص: 111 ] عن أوقات الناس في حجهم، وحل ديونهم، وعدد نسائهم، ومدد حواملهم، وأجرة أجرائهم وغير ذلك.

ولا شك أن الوقت في الوقوف متعلق بالهلال، فالهلال ميقات له، لأنه به يعرف، وكذلك الطواف، فلا يتضمن ما قلناه إطلاق اسم الحج على شرط الحج، دون نفس الحج.

فإن قيل: فعلى قولكم أيضا قد قال تعالى: الحج أشهر معلومات والأفعال كالوقوف، وسائر الأفعال إنما تقع في غير الأهلة، بل في وسط الشهر لا في الأشهر، فليس في شوال من أفعال الحج شيء، فقد أخرجتم الحج عن أن يكون اسمه متناولا لشيء من الأفعال سوى الإحرام.

قلنا في جواب ذلك: إن الإحرام ركن الحج عندنا، فقوله: الحج أشهر ، يعني: عقد الحج وإنشاؤه في أشهر معلومات..

قالوا: احتمل أن يكون المراد به غالب أحوال الناس، وكأنه قال تعالى: الحج أشهر معلومات في تعارف الناس، فمن فرض في هذه الأشهر الحج، فلا يخلن بحقه، وليرفض الفسوق والرفث والجدال كما قال الله تعالى في صوم رمضان: أياما معدودات ، والمقصود به: تهوين الأمر عليهم دعاء إلى فعله، لا سيما وليس في قوله: الحج أشهر معلومات صفة الأمر، فيجوز أن يكون إخبارا عن متعارف أحوال الناس، في إيقاع الإحرام بالحج في هذه الأشهر، وهذا لأنا لا ننكر احتمال اللفظ له، إلا أن الظاهر ما قلناه.

ومما سألوه أن من فروض الحج ما يفعل بعد أشهر الحج، ويكون مفعولا في وقته، وهو طواف الزيارة، ولم يجز شيئا من فروض الصلاة [ ص: 112 ] يفعل بعد خروج وقتها، إلا على وجه القضاء، فلم يجز أن يكون ركن العبادة باقيا في غير وقتها، فبقي إحرامه كاملا بعد أشهر الحج، وهو يوم النحر قبل رمي الجمار، حتى قال الشافعي: "إن جامع يوم النحر قبل رمي الجمار فسد حجه" ، فدل على كونه وقتا للإحرام بالعبادة، وليس بقاء العبادة في هذا الوقت على نحو بقاء العصر بعد غروب الشمس، والصبح بعد طلوع الشمس، فإن ذلك وقت العذر والضرورة، لا وقته الأصلي، ولذلك لا يجوز تأخير صلاة العصر، إلى وقت يعلم وقوعها بعد غروب الشمس، وها هنا يوم النحر وقت أصلي لأفعال الحج، فليكن وقتا لعقد الإحرام..

والجواب عنه أنه وقت لأعمال حج، لا يتصور بقاء الإحرام به، فإن الطواف في هذا اليوم، إنما يكون لحج يقدم الإحرام به قبل يوم النحر، وذلك الحج بالاتفاق، لا يتصور بقاؤه في هذا الوقت، والذي ينعقد من الإحرام في هذا الوقت، لا يتصور أن يكون هذا الوقت وقتا لأعماله، فكيف يجوز الاستدلال به؟

بل يقال إن فواته يدل على أن الوقت الذي لا يبقى فيه الإحرام، لا يجوز أن يكون وقتا لابتداء مثله، وهذا أقرب في الاستدلال.

التالي السابق


الخدمات العلمية