الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          السحر

                                                          واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون

                                                          * * *

                                                          جاءت آيات الله بينات داعيات إلى الحق فنبذوها ، وجاءهم رسول الله تعالى بكتاب مصدق للحق الذي معهم ، فنبذوه وراءهم ظهريا .

                                                          [ ص: 337 ] تركوا الحق الذي ظهر نوره ، وكان من دأبهم أن يتركوا النور ، ويتبعوا الظلام ، لتعشعش فيه أوهامهم ، ولذلك مع تباعد العهد بينهم وبين نبي الله سليمان عليه السلام الذي سخر الله له الطير والحيوان أخذوا يتبعون أوهاما كانوا قد حرفوا بها التوراة ، لقد زادوا في التوراة قصة ما أنزل الله بها من سلطان ، لأنهم كانوا يكتبون بأيديهم ويقولون هو من عند الله ، وما هو من عند الله .

                                                          لقد جاء في الإصحاح الحادي عشر من سفر الملوك أن السحرة هم الذين أقاموا ملك سليمان ، وأن سليمان ارتد وكفر ، فأخذوا يذكرون هذا السحر ! ! وذلك لأن الذين يضلون دائما عن الحق يتبعون أوهاما لا أساس لها من المنطق ولا من العقل .

                                                          ترك اليهود كتاب الله تعالى الذي يتلى بينا هاديا مرشدا إلى الحق ، واتبعوا كلام السحر المكذوب ، وراحوا يرددونه في مدراسهم ، ومواضع عبادتهم ، ولذا قال تعالى : واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان اتبعوا ذلك القول ، وصغت قلوبهم العامرة الممتلئة بهذا العطن من الأقوال الفاسدة ، والشياطين هنا هم أهل الشر من الإنس ، كما قال تعالى : وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون والشياطين يكونون من الإنس ، كما يكونون من الجن كقوله تعالى : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا

                                                          فالظاهر في هذه الآية أن الشياطين هنا من الإنس ، وقوله تعالى : واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان أنهم يتبعونها مصغين إليها متتبعين لها ، كما يتبع الكلام القيم ; ولذا عبر بتتلو لأن التلاوة قراءة واضحة بينة تتوالى كلماتها ، فعبر بذلك للإشارة إلى أن الشياطين يحسنون تنسيق الكلمات ويلقونها بنغمات معينة كسجع الكهان ، وأولئك اليهود يستمعون إليها بعناية مصدقين ، مع أنها كاذبة ، ولكن أوهامهم يثبت لهم صدقها ، فسمعوها محافظين على السماع .

                                                          والله سبحانه وتعالى رد عليهم أوهامهم التي سجلوها في التوراة على أنها من عند الله ، وما هي من عند الله فقال تعالى : وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا

                                                          [ ص: 338 ] ما هو هذا الكفر الذي نفاه الله عن نبيه سليمان عليه السلام ، أهو ما ادعته الكذبة التي ألحقت بالتوراة - بتوراتهم - وما هي منها ؟ وهو أنه ارتد وكفر ، فنفى الله تعالى عنه ذلك الكفر ، وتلك الردة ، وأن شياطينهم الذين قالوا ذلك هم الذين كفروا بدعواهم على سليمان الكفر . وافترائهم عليه وادعائهم السحر ، والتمويه على الناس به ، فكل هذا كفر .

                                                          هذا هو ظاهر القول ، إذ كان اليهود قد اتبعوا هذه القصة المكذوبة التي وضعت في التوراة افتراء على الله تعالى .

                                                          ونظر بعض المفسرين نظرة أخرى فقالوا : إن الكفر هو السحر ، فما كفر سليمان بادعائهم أنه استعان بالسحر على تثبيت ملكه . وما كفر سليمان باتخاذه السحر واعتقاد أن فيه قوة ولا وقع منه ذلك ، ولكن الشياطين الذين كانوا يتلونه على ملك سليمان ، هم الذين كفروا باتخاذهم السحر وهو كفر .

                                                          وقوله تعالى : ما تتلو الشياطين على ملك سليمان أي على تثبيت ملك سليمان في زعمهم ، وقال بعض علماء اللغة إن على تجيء بمعنى في ، والمعنى ما تتلو الشياطين في ملك سليمان ، وعندي أن على في موضعها من حيث إنها تعويذات ، والتعويذات تقع على موضوعها ، وموضوعها هو ملك سليمان في زعمهم الفاسد ، وكما كذب ما في توراتهم .

                                                          وقد بين سبحانه أن أولئك الشياطين لا يقتصرون على ذكر ما ادعوه على ملك سليمان ، وافتروه عليه ، وهو النبي الذي سخر الله تعالى له بعض الرياح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ، بل يتجاوزون ذلك إلى تعليم الناس السحر فقال تعالى : يعلمون الناس السحر وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت هؤلاء الذين يسيطر عليهم الوهم ، وتخيل الناس ، فيتصورون أمورا واقعة ، وما هي بواقعة . ولكن حال السحر أهو حقيقة ثابتة أم هو تخييل وتصوير للأمور بغير صورتها فيخيل إليه أنه يرى ؟

                                                          [ ص: 339 ] ونقول في الجواب عن ذلك : جاء السحر في القرآن ووصف بأوصاف ، نتعرف حقيقته من هذه الأوصاف . . أول وصف جاء في أخبار موسى عليه السلام مع فرعون ، فقد قال تعالى في سحر آل فرعون : قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم ونرى أنه يتصف بأنه سحر أعين الناس ، أي أنهم لم يجعلوا الحبال أفاعي ، بل إن تأثيره أنه كان في الأعين لا في الوقائع ، فتأثيرهم في الرؤية في تغيير الحقيقة وتحويلها من حبال إلى ثعابين ، وفي سورة طه قال الله تعالى حكاية عنهم عندما التقوا يوم الزينة : قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى

                                                          ونرى أن السحر تأثير في الأعين المبصرة ، وليس تغيير للحقائق الواقعة فلا يكون تغييرا ، ولكن يكون تأثيرا في العيون ، ولكنه تأثير نفسي قبل أن يؤثر في العين ; ولذا قال تعالى فيما تلونا من سورة الأعراف واسترهبوهم أي اتجهوا إلى إلقاء الرهبة في قلوبهم ; ولذا جاء في سحر بابل أرض السحر أنه لا يؤثر في النفوس إلا بما يسبق إليها من تصديقه .

                                                          ولنذكر ما عرف من سحر بابل فقد جاء ذكره في الآية التي نتعرف معناها الكريم ، فقد قال تعالى : يعلمون الناس السحر إن تأثيره مثل له أبو بكر الرازي بمن يركب جارية تجري في الماء ، فإن ضلال الأعين يجعل الناظر إلى الأشجار يحس أنها تسير لا الباخرة .

                                                          وربط أهل بابل الذين كانوا يعبدون الكواكب تأثير سحرهم بالكواكب ، وكانوا يقولون الرقى والتمائم والعقد والنفث باسمها ويوهمون العوام ، والضعفاء صدقها ويشترطون في القيام بأفعالهم الساحرة أن ينالوا أولا ثقة من يريدون التأثير فيهم ، ويعقد مجالس سرية لذلك ، ولقد جاء في أحكام القرآن لأبي بكر الرازي ما نصه : " وكانوا يدعون عوام الناس وجهالهم سرا ، كما يفعل ) الساعة ( أي في أيامهم ) كثير [ ص: 340 ] ممن يدعي ذلك مع النساء والأحداث الأغمار ، والجهال الحشو ، وكانوا يدعون من يعملون له ذلك إلى تصديق قولهم ، والاعتراف بصحته " .

                                                          هذه إشارة إلى السحر ، وما يعمله السحرة ، وننتهي من ذلك إلى أن في السحر ثلاث صفات :

                                                          أولها - أنه يسبقه الثقة بالساحر ليستطيع أن يؤثر تأثيره في النفوس .

                                                          ثانيها - أنه يكون فيه إلقاء الرهبة في النفوس ، وتحويلها إلى الرهبة من الساحر ، كما قال تعالى : واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم

                                                          الثالثة - أن السحر في أعلى صوره وأدناه يؤثر في النظر ، فيجعل الرائي يتخيل غير ما يرى ، ولا يمكن أن يعرف الحقائق ، فالحبال حبال ، وإن بدت ثعابين .

                                                          وإن هذه الأوصاف تتفق الآن مع الاستهواء الذي يفعله بعض الناس بالتأثير في غيرهم وتوجيه مشاعرهم وأهوائهم ، والسيطرة على خواطرهم ، ويمسحون أفكارهم ، وهو ما يسمى بالتنويم المغناطيسي الذي يفعله كبار المجرمين الآن ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

                                                          هذا هو السحر فيما نعلم ، وقد مهر فيه أهل بابل ، حتى ضللوا به ، وكان السحرة علماء ، وكان اليهود يعلمون الناس السحر وما أنـزل على الملكين ببابل هاروت وماروت فاليهود كانوا يعلمون ما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ، فهل هما ملكان حقيقيان نزلا لتعليم الناس السحر ، أو طرق الوقاية منه ، ولا يمكن أن نعرف طرق الوقاية إلا بمعرفة طريقة التأثير .

                                                          الظاهر أنهما ملكان ; لأن الله تعالى سماهما ملكين ، ولأن الله تعالى سمى ما كانا يقومان به أنزله تعالى عليهما ، ولم يبين المدة التي أقاماها في بابل ، لتعليم الوقاية منه وإنذار الناس منه ، كما قال إمام الهدى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه ، وإن نزول الملك للتعليم كما ثبت بنزول جبريل في حديث الإيمان الذي رويناه آنفا .

                                                          [ ص: 341 ] وإننا نسير فيما نكتب في فقه الإسلام ، وعلم القرآن على أساس أننا لا نعدل عن الظاهر إلا إذا تعذر تحقيق الظاهر ، ولا ننتقل منه إلى غيره إلا مهتدين بنص ، ولذا نرى أنهما ملكان نزلا لبيان السحر في ذاته والتضليل به وطريق الوقاية منه فهما منذران كما قال الإمام علي .

                                                          ورأى بعض الكتاب المتأخرين في التفسير أن من سميا الملكين كانا رجلين متظاهرين بالصلاح والتقوى في بابل وهي مدينة على نهر الفرات ، ونالوا ثقة الناس حتى ظنوا أنهما ملكان نزلا من السماء ، وبلغ مكر هذين الرجلين أنهما كانا يقولان : إنما نحن فتنة فلا تكفر .

                                                          واحتج الذين قالوا هذا القول من مفسري هذا القرن بأن الملك لا ينزل إلى الأرض معلما منذرا ، لأن المشركين طلبوا أن ينزل ملك ، فقال الله تعالى : ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون وكان المشركون يقولون : مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنـزل إليه ملك فيكون معه نذيرا وقالوا : إن نزول الملك مستحيل ، لأنه لو كان ممكنا لأرسل إليهم ملكا مؤيدا للرسول .

                                                          ونحن نقول إن نزوله ليس مستحيلا ، والله لم يرد عليهم بأنه مستحيل ، ولكن علم أنهم متعنتون ، وقد طلبوا غير ذلك ، وقالوا في طلبهم آيات أخرى : وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنـزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا

                                                          فهم طلبوا هذه الآيات الحسية الكونية كما طلبوا أن ينزل ملك بقرطاس من السماء ، وذلك كله كفر بالقرآن الذي تحداهم فعجزوا .

                                                          فهل هذا كله مستحيل أن يأتي الله به ، أم أن الله تعالى لا يريد أن يأتيهم بآيات أخرى وهو يعلم أنهم لن يؤمنوا ; ولهذا نقول إنه لا يوجد دليل [ . . . ] [يمنع] [ ص: 342 ] أن ينزل الله تعالى ملكا إلى الأرض ، وقد نزل جبريل عليه السلام في صورة رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الإيمان الذي رواه البخاري .

                                                          لهذا نحن نرى كما ذكرنا أنهما ملكان ; لأن الله تعالى ذكر أنهما ملكان ، وسماهما وذكر أنه أنزل عليهما ، وأنهما كانا يحتاطان في بيان السحر ، ويقولان إنما نحن فتنة فلا تكفر

                                                          كان هذان الملكان غير مضلين للناس ، إنما جاءا لإنقاذ الناس من فتنة السحر إذ كانا يعلمان الحيل والتمويهات ، وطرق الاستهواء التي أشرنا إليها من قبل آخذين لها من القرآن أدلة ، كانا يعلمان الناس ذلك حتى لا يضلوا بالسحر ، وقد اشتد ظلامه ، وطم سيله وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة أي إن ما نعلمه فتنة يختبر الناس به فلا تكفر أي فلا تأخذ به لأنه كفر ، وإنما علمناك هذا لتتخذ منه وقاية ، ولتحذره ، وليكون ذلك إنذارا حتى لا تصدقه بعد ذلك ، ولتعلم أنه يضل السحر والساحر .

                                                          اتبع اليهود ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وتعلموا السحر ، وأخذوا يعلمونه ، وجاء الملكان ليبينا زيفه وطرق التمويه فبدل أن يحذروه تعلموه منهما .

                                                          وهكذا هم دائما يأخذون من كل شيء ما يضر ويتركون ما ينفع ، فهم دائما يأخذون من التحذير طريق الوقوع في المحظور ، كما أخذ إخوة يوسف من قول أبيهم يعقوب : وأخاف أن يأكله الذئب فقالوا عندما ألقوه في غيابة الجب : أكله الذئب .

                                                          علم الملكان أهل بابل التمويه الذي يكون في السحر ليتقوه ، فأخذ اليهود ذلك ، واتخذوه سبيلا ; ولذا قال الله تعالى : فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه هذه صورة من أقبح الصور ، ذكرها مثال لغيرها ، كاستهواء النفوس بمسح تفكيرها ، وأن يستبد بما فيها تفكيرا ، ويسمون ذلك في هذه الأيام [ . . . المخ] .

                                                          [ ص: 343 ] وقال تعالى : فيتعلمون منهما ولم يقل فيعلمانهم ، لأن الملكين ما كانا بصدد تعليمه ، بل كانا بصدد بيان زيفه ولكن هؤلاء تعلموه ليكون نقيض ما أراد الملكان كفقيه يبين الحيل الفقهية الباطلة ، فيتخذها الفاسق سبيلا للتحايل على شرع الله سبحانه ، وكرجل يجمع الأحاديث الموضوعة لكيلا تتخذ للاستشهاد فيجيء فسقة الناس وينشرونها ، وهكذا شأن الفاسدين يتبعون الشواذ فيقولونه .

                                                          وما يفرقون به بين المرء وزوجه هو طريق الاستهواء بأن يعملوا بالطريق الذي يسمونه التنويم المغناطيسي ، وهو من أشد أنواع السحر ، ينزع شعور المحبة من أحد الزوجين لزوجه فيكون التفريق بينهما ، والسحرة الآن لا يفرقون بين المرء وزوجه بل يفرقون بين المؤمن ودينه ، والناس عنهم غافلون ، ألا يستيقظ المسلمون وذلك كله فسوق عن أمر الله تعالى ونهيه .

                                                          وليس ذلك الكفر خارجا عن إرادة الله ، ولذا قال تعالى : وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويطلق إذن الله تعالى تارة بمعنى الترخيص في فعل ، كقوله تعالى : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ويطلق إذن الله تعالى تارة أخرى بمعنى تسخيره ، ككون السم يؤثر في الجسم ، والسحر يؤثر في النفس ، والترياق في إزالة السم فعل هذا بإذن الله تعالى ، كذلك السحر ما كان ليؤثر تأثيره في النفوس إلا بالأوهام الفاسدة إلا بتسخير من الله تعالى ، أو إذن منه سبحانه وتعالى .

                                                          فتأثير السحر في النفوس إنما هو بتسخير الله تعالى اختبارا للنفوس القوية التي تقاوم النفوس الشريرة والتآثير الفاسدة ، وقد يسأل سائل : لماذا كان السحر ، وهو على هذا النحو من الإفساد للنفوس وتخليق الأوهام ؟

                                                          ونقول في الجواب عن ذلك ، كما خلق الأفاعي والجرذ ; فإنها خلق الله تعالى ، خلقها لاختبار عباده ، وقد يكون لها فوائد يعلمها الله تعالى ، وإنه هو الفاعل ، لا يسأل عما يفعل ، وهم يسألون .

                                                          [ ص: 344 ] ولقد بين سبحانه وتعالى أن اليهود الذين اختاروا السحر على علم الكتاب يتعلمون ما يضرهم ولا نفع فيه فقال تعالى : ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم والضرر في السحر واضح لأنه يفسد العقول ، فالساحر الدائب على السحر ، ينتهي أمره بفساد عقله ، فيضطرب وتسارع إليه الوساوس ، فلا يكون عنده ميزان عقلي سليم ، يدرك به الحق من الباطل ، ويكون في وسواس مستمر ، ويضر المجتمع ; إذ به تفسد القلوب وتضطرب الأفهام ، ولا يكون حق واضح ، ولقد كان لنا صديق كان يتخذ السحر والتنويم المغناطيسي ، وكان عالما رياضيا منظم العقل مستقيم الفكر ، فلما أكثر من هذا التنويم الذي هو السحر ، اضطربت موازين تقديره ، وصار يصدق ما لا يقبل التصديق ويقبل من القول ما لا يصدقه .

                                                          وآخر كان مؤمنا أشد الإيمان ، وأكثر من هذا التنويم الذي هو السحر حتى فسد التقدير عنده ، وصار يهرف بقول لا يصدر عن مؤمن عاقل ، فيفضل الرسول على رب العالمين .

                                                          وذلك لأن السحر أفسد عقله المؤمن ، وتفكيره السليم ، ونفى الله النفع منه ، فقال تعالى : ولا ينفعهم أي لا ينفع متخذيه بأي صورة من صور النفع . وليس لعاقل أن يقوم بعمل مؤكد الضرر ، ولا نفع فيه بأي صورة من النفع ; ولذا قال تعالى : ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق

                                                          أكد الله سبحانه وتعالى أن من اتخذ هذا النوع ; أي أن من اشترى السحر ، ودفع نفسه وعقله وإحساساته - ليس له نصيب في الآخرة ، فالخلاق هو النصيب .

                                                          وأكد ذلك باللام الأولى الداخلة على قد ، وبقد وباللام الثانية والجملة في معنى المجاز بتشبيه المشتري للسحر بتقديم نفسه العاقلة الطاهرة بحال من يشتري شيئا تافها ، ويدفع فيه شيئا قيما ويبيع آخرته ، فلا يكون له نصيب فيها .

                                                          ولقد أكد سبحانه وتعالى هذا المعنى ، فقال تعالت كلماته : ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون في هذه الجملة السامية تأكيد الذم للسحر وأكده باللام ، [ ص: 345 ] وبئس فعل دال على الذم ، أي بئس هذا السحر الذي باعوا به أنفسهم ، أي أن السحر فوق مضراته الواضحة المفسدة للنفس وللجماعة هو في ذاته أمر مذموم لا يصح أن يطلب في ذاته ، ولكنهم يدفعون فيه أغلى الأثمان إذ يدفعون أنفسهم ، وعقلهم وإحساسهم وقلوبهم ، وقوله تعالى : شروا به أنفسهم أي باعوا ; لأن شروا بمعنى باعوا ، ولكنهم في عمياء من أمورهم ; ولذا قال تعالى : لو كانوا يعلمون أي نوع من العلم ، فلا يقدم عليه من عنده ذرة من العلم .

                                                          وإن الفقهاء أجمعين يقررون أنه من ثبت أنه يتخذ السحر عملا يقتل لحماية الناس من إفساده للنفوس ، وتفريقه للأخيار ، والله تعالى بكل شيء محيط .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية