الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من [ ص: 370 ] الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وأنزلنا إليك الكتاب يعني: القرآن (بالحق) أي: بالصدق مصدقا لما بين يديه من الكتاب قال ابن عباس : يريد كل كتاب أنزله الله تعالى . وفي "المهيمن" أربعة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنه المؤيمن رواه التميمي عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير ، وعكرمة ، وعطاء ، والضحاك . وقال المبرد: "مهيمن" في معنى: "مؤيمن" إلا أن الهاء بدل من الهمزة ، كما قالوا: أرقت الماء ، وهرقت ، وإياك وهياك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأرباب هذا القول يقولون: المعنى: أن القرآن مؤتمن على ما قبله من الكتب إلا أن ابن أبي نجيح روى عن مجاهد: ومهيمنا عليه . قال: محمد مؤتمن على القرآن . فعلى قوله ، في الكلام محذوف ، كأنه قال: وجعلناك يا محمد مهيمنا عليه ، فتكون هاء "عليه" راجعة إلى القرآن . وعلى غير قول مجاهد ترجع إلى الكتب المتقدمة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 371 ] والثاني: أنه الشاهد ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أنه المصدق على ما أخبر عن الكتب ، وهذا قول ابن زيد ، وهو قريب من القول الأول .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع: أنه الرقيب الحافظ ، قاله الخليل .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فاحكم بينهم يشير إلى اليهود بما أنزل الله إليك في القرآن ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق قال أبو سليمان: المعنى: فترجع عما جاءك . قال ابن عباس : لا تأخذ بأهوائهم في جلد المحصن .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 371 ] قوله تعالى: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا قال مجاهد: الشرعة: السنة ، والمنهاج: الطريق . وقال ابن قتيبة: الشرعة والشريعة واحد . والمنهاج: الطريق الواضح . فإن قيل: كيف نسق "المنهاج" على "الشرعة" وكلاهما بمعنى واحد؟ فعنه جوابان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أن بينهما فرقا من وجهين: أحدهما: أن "الشرعة" ابتداء الطريق ، والمنهاج: الطريق المستمر ، قاله المبرد . والثاني: أن "الشرعة" الطريق الذي ربما كان واضحا ، وربما كان غير واضح . والمنهاج: الطريق الذي لا يكون إلا واضحا ، ذكره ابن الأنباري . فلما وقع الاختلاف بين الشرعة والمنهاج ، حسن نسق أحدهما على الآخر .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن الشرعة والمنهاج بمعنى واحد . وإنما نسق أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظين . قال الحطيئة:


                                                                                                                                                                                                                                      ألا حبذا هند وأرض بها هند وهند أتى من دونها النأي والبعد



                                                                                                                                                                                                                                      فنسق البعد على النأي لماخالفه في اللفظ ، وإن كان موافقا له في المعنى ، ذكره ابن الأنباري . وأجاب عنه أرباب القول الأول ، فقالوا: "النأي": كل ما قل بعده أو كثر كأنه المفارقة ، والبعد إنما يستعمل فيما كثرت مسافة مفارقته .

                                                                                                                                                                                                                                      وللمفسرين في معنى الكلام قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: لكل ملة جعلنا شرعة ومنهاجا ، فلأهل التوراة شريعة ، ولأهل [ ص: 373 ] الإنجيل شريعة ، ولأهل القرآن شريعة ، هذا قول الأكثرين . قال قتادة: الخطاب للأمم الثلاث: أمة موسى ، وعيسى ، وأمة محمد ، فللتوراة شريعة ، وللإنجيل شريعة ، وللفرقان شريعة يحل الله فيها ما يشاء ، ويحرم ما [يشاء] بلاء ، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه ، [ولكن] الدين الواحد الذي لا يقبل غيره ، التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به الرسل .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أن المعنى: لكل من دخل في دين محمد جعلنا القرآن شرعة ومنهاجا ، هذا قول مجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة فيه قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: لجمعكم على الحق .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: لجعلكم على ملة واحدة ولكن ليبلوكم أي: ليختبركم في ما آتاكم من الكتب ، وبين لكم من الملل . فإن قيل: إذا كان المعني بقوله: لكل جعلنا [ ص: 374 ] منكم شرعة :نبينا محمدا مع سائر الأنبياء قبله ، فمن المخاطب بقوله: ليبلوكم ؟ فالجواب: أنه خطاب لنبينا ، والمراد به سائر الأنبياء والأمم . قال ابن جرير: والعرب من شأنها إذا خاطبت غائبا ، فأرادت الخبر عنه أن تغلب المخاطب ، فتخرج الخبر عنهما على وجه الخطاب .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فاستبقوا الخيرات قال ابن عباس ، والضحاك: هو خطاب لأمة محمد عليه السلام . قال مقاتل: و "الخيرات": الأعمال الصالحة . إلى الله مرجعكم في الآخرة فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون من الدين . قال ابن جرير: قد بين ذلك في الدنيا بالأدلة والحجج ، وغدا يبينه بالمجازاة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية