الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              4280 [ ص: 150 ] 6 - قوله: قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين [آل عمران: 93]

                                                                                                                                                                                                                              4556 - حدثني إبراهيم بن المنذر، حدثنا أبو ضمرة، حدثنا موسى بن عقبة، عن نافع، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن اليهود جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل منهم وامرأة قد زنيا، فقال لهم: " كيف تفعلون بمن زنى منكم؟" قالوا: نحممهما ونضربهما. فقال: "لا تجدون في التوراة الرجم؟" فقالوا: لا نجد فيها شيئا. فقال لهم عبد الله بن سلام: كذبتم فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين فوضع مدراسها الذي يدرسها منهم كفه على آية الرجم، فطفق يقرأ ما دون يده وما وراءها، ولا يقرأ آية الرجم، فنزع يده عن آية الرجم فقال ما هذه؟ فلما رأوا ذلك قالوا: هي آية الرجم. فأمر بهما فرجما قريبا من حيث موضع الجنائز عند المسجد، فرأيت صاحبها يجنأ عليها يقيها الحجارة. [انظر: 1329 - مسلم: 1699 - فتح: 8 \ 224]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن اليهود جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل منهم وامرأة قد زنيا: الحديث بطوله.

                                                                                                                                                                                                                              وظاهر إيراده أن الآية نزلت في اليهود، فإن سياق الحديث أن عبد الله بن سلام قال لليهود: كذبتم فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين والذي ذكره أهل التفسير: إسرائيل كان اشتكى عرق النسا، فكان له صياح فقال: لئن أبرأني الله لا أكلت عرقا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 151 ] وفي رواية: فجعل بنوه بعد ذلك يتتبعون العروق يخرجونها من اللحم. وقيل: حرم على نفسه الأنعام، وقيل: لحوم الإبل وألبانها، فقالت اليهود له: حرم علينا هذا في التوراة، فأكذبهم الله وأخبر أن إسرائيل حرمه على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، ودعاهم إلى إحضارها.

                                                                                                                                                                                                                              وحديث الباب سلف ويأتي في الحدود أيضا، واسم المرأة الزانية: بسرة كما نبه عليه السهيلي.

                                                                                                                                                                                                                              ونذكر هنا جملة من فوائده:

                                                                                                                                                                                                                              الأولى: أن الإسلام ليس شرطا في الإحصان، وعند مالك : لا يصح إحصان الكافر، قال: وإنما رجمهما؛ لأنهما لم يكونا أهل ذمة، أي: بل أهل حرب، وكذا ذكره الطبري .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن التين: يريد أنه لو قدر على قتل جميعهم لقتل؛ لأن الجزية لم تكن نزلت حينئذ. وقال ابن القاسم : كانا من أهل فدك وخيبر حربا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم ذاك.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو هريرة -فيما رواه ابن إسحاق عن الزهري ، عن المديني عنه: كان هذا حين قدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - المدينة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 152 ] قال مالك : ولو كانا أهل ذمة لم يسألهم كيف الحكم فيهم، ولا حكم عليهم بقول أساقفتهم.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه نظر؛ لأن سؤالهم كان كإلزام، فإن قوله لهم: "كيف تفعلون؟ " لم يرد به تقليدهم ولا معرفة الحكم بينهم، وإنما المراد: إلزامهم بما يعتقدون في كتابهم، ولعله قد أوحي إليه أن الرجم في التوراة الموجودة في أيديهم لم يغيروها كما غيروا غيره، أو أنه أخبره من أسلم منهم.

                                                                                                                                                                                                                              وقال النووي: هذا تأويل غير جيد؛ لأنهما كانا من أهل المدينة، ولأنه رجم المرأة، والنساء الحربيات لا يجوز قتلهن مطلقا.

                                                                                                                                                                                                                              الثانية: الحكم بين أهل الذمة، والأصح عندنا وجوبه وفاقا لأبي حنيفة ، وهو قول الزهري وعمر بن عبد العزيز والحكم، وروي عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                              وقال القرطبي : فإن كان ما رفعه إلى الإمام ظلما كالقتل والغصب بينهم، فلا خلاف بينهم بعد، ثم حكى الخلاف فيما عداه، ونقل عن مالك والشافعي أنه بالخيار بين الحكم بينهم وتركه، غير أن مالكا يرى الإعراض أولى، ثم يذكر عن الشافعي أنه لا يحكم بينهم في الحدود.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 153 ] الثالثة: معنى (نحممهما) نسود وجوههما بالحمم -بضم الحاء المهملة وهو الفحم، وروي: (نحملهما) -بحاء مهملة ولام- أي: نحملهما على شيء ليظهروا، وبالجيم بدلها، أي: نجعلهما على جمل. وقال الداودي : نحممهما: يركبان ويردفان أحدهما إلى الآخر، نجبيهم، والتجبية هي أن يحملا على حمار، وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه: ويضرب مائة بحبل مطلي بقار.

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة: قوله: (فوضع مدراسها الذي يدرسها منهم كفه على آية الرجم)، يريد صاحب دراسة كتبهم، ومفعل ومفعال من أبنية المبالغة، وهو عبد الله بن صوري -بضم الصاد وسكون الواو، وكسر الراء وفتحها- ولأبي داود: "ائتوني بأعلم رجل منكم" فأتوه بابني صوريا، ولعلهما -كما قال ابن المنذر : عبد الله هذا وكنانة بن صوريا، ويكون بناهما على لفظ أحدهما، أو يكون عبد الله يقال فيه أيضا: ابن صوريا، وكان عبد الله أعلم من بقي من الأحبار بالتوراة، ثم كفر بعد ذلك، وزعم السهيلي أنه أسلم.

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة: في أبي داود أنه - عليه السلام - رجمهما بالبينة، فإن صح -كما قال ابن عبد البر - فيكون الشهود مسلمين، وإلا فينبغي أن يكونا أقرا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 154 ] وعند أبي حنيفة : إذا تزوج المسلم ذمية بشهادة ذميين جاز، والجمهور: لا. قال القرطبي : إن الكافر لا تقبل شهادته مطلقا ولو على كافر، سواء الحدود وغيرها. الحضر والسفر. وقبل شهادتهم جماعة من الناس وأهل الظاهر إذا لم يوجد مسلمون.

                                                                                                                                                                                                                              السادسة: قوله: (فرجمهما قريبا من حيث موضع الجنائز) في المسجد، وفي رواية: (عند البلاط) وهما متقاربان.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (فرأيت صاحبها يحني عليها يقيها الحجارة) وفي رواية: (يجنأ) بالهمز ثلاثي. أي: يميل ويعطف، وهو بالجيم. وعن الخطابي أن المحفوظ بالحاء أي: المهملة، أي: يكب عليها. يقال: حنا يحنو حنوا. وفي الحديث أن أبا بكر دعا أبا ذر يحني عليه. قال ابن الأثير: بالجيم بمعنى: أكب عليه. وقيل: هو مهموز، وقيل: الأصل فيه الهمز من جنأ يجنؤ ثم يخفف يقال: جنا وجانا إذا أكب عليه. ورواه بعضهم كما قال المنذري بضم الياء، وروي (يجانئ) من [جانأ] يجانئ ويجنئ بالهمز أي: ركع، وروي بفتح الحاء المهملة وتشديد النون. وفي "أطراف الموطإ" … يقيد أكثر الرواة يجني من غير همز. وقال يحيى بن يحيى وطائفة: يحنى بالحاء المهملة وبغير همز، وهو أقرب إلى الصواب. وقال البيهقي :

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 155 ] أهل الحديث رووه (يحني) وأهل اللغة بالجيم. وقال الهروي: هو بحاء أي: يكب، يقال: أحنى عليه إذا أكب عليه يقيه شيئا، وقيل: هو بالخاء المعجمة وأنشد: -الذي يخني على لبد- أي: أكب عليه الدهر. فهذه روايات، وقد سلف التنبيه عليها.

                                                                                                                                                                                                                              السابعة: فيه أن أنكحة الكفار صحيحة وكذلك رجمهما، وهو الأصح عندنا.

                                                                                                                                                                                                                              الثامنة: فيه دليل أنه لا يحفر لمن رجم؛ إذ لو حفر له ما استطاع أن يحني عليها. قاله مالك ، لكن في "صحيح مسلم " من حديث بريدة أنه حفر لماعز والغامدية إلى صدرهما، وقيل: يحفر لمن قامت البينة عليه دون المقر، وقيل: يخير.

                                                                                                                                                                                                                              التاسعة: فيه أن المرأة يقام عليها الحد وهي قاعدة، إذ لو كانت قائمة لما استطاع ما قيل.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية