الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم

                                                          هذا الكلام السامي في تأكيد القول الأول، وهو إثبات تنزيه الله تعالى، وأنه ما دعا إلا إلى الوحدانية، ولقد كان كل هذا في مقام التوبيخ وإثبات الحجة عليهم، وعقابهم على كفرهم، وافترائهم على الله تعالى ربهم، وعلى عيسى ابن مريم رسوله سبحانه إليهم.

                                                          والجملة السامية السابقة فيها إثبات استحالة أن يكون قد قال "اتخذوني وأمي إلهين"، فهي تفي بالدليل، وهي هذه الجملة السامية فيها نفي وإثبات. فيها نفي القول الذي نسبوه بهتانا إليه، وفيه إثبات ما قاله، ولم يقل سواه، ولذلك كان فيه قصر بالنفي والإثبات، فهو يذكر أنه دعا إلى التوحيد المطلق، وفيه إثبات أنه لا يمكن أن يدعو إلا إلى التوحيد المطلق، وذلك لثلاثة أمور: [ ص: 2409 ] أولها: أنه هو الذي أمر ربه، ولم يؤمر بغيره، وهو رسول من عند الله، ولا يمكن أن يكون الرسول قد أدى الرسالة على وجهها إلا إذا بلغ ما أمر به دون سواه؛ ولذا قال عليه السلام: ما قلت لهم إلا ما أمرتني به

                                                          ما أمرتني أن أقوله وأبلغه، وإلا أكن غير مؤد للرسالة.

                                                          ثانيها: أنه لم يكتف ببيان أنه أدى ما أمر به إجمالا، بل ذكر حقيقة ما دعا مفسرا غير مجمل، إذ قال: أن اعبدوا الله ف: "أن" هي المفسرة، فهو يفسر ما أمر به وهو بين لا إبهام فيه.

                                                          وثالثها: أنه أقام الدليل على استحقاقه وحده للعباده سبحانه: ربي وربكم أي: أنه هو المستحق للعبادة لأنه هو وحده الذي خلقني، فأنا مخلوق، فكيف أكون إلها، وهو الذي خلقكم وحده فكيف تعبدون غيره؟!، وفي هذا التعبير أثبت وحدانية الخلق والتكوين ووحدانية الذات، كما أثبت تصريح اللفظ وحدانية العبادة.

                                                          وقد أكد عليه السلام أنه بلغهم تلك الحقائق، فقال كما حكى عنه ربه: وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم أي: كنت مشاهدا لهم رقيبا عليهم تعلم ما حاولوه من الزيغ والتحريف مدة بقائي فيهم، فما تركت تنبيههم إلى التوحيد في العبادة والذات والصفات والتكوين مدة إقامتي بينهم، ولما تركت الدنيا كنت أنت الرقيب.

                                                          فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد في النص الكريم السابق ذكر -عليه السلام- شهادته عليهم وهو حي، قائم برسالته مؤد لها على وجهها، وفي هذا النص يذكر انتهاء مهمته بوفاته، ويفوض أمرهم إلى ربهم في ألطف تعبير وأدق إشارة.

                                                          والفاء للتفصيل كما تدل على الحالية والبعد به، والمعنى عند حد وفاتي ومن قبلها، ومن بعد كنت أنت وحدك الرقيب عليهم العالم بحالهم وأنت على كل شيء عالم بحالهم تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

                                                          وفقنا الله لما يحب ويرضى.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية