الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 300 ] المسألة الثالثة

                                                      ذكر بعض أفراد العام الموافق له في الحكم لا يقتضي التخصيص عند الأكثرين ، بل الأول باق على عمومه . قال القفال : فصار الخاص كأنه ورد فيه خبران : خبر يشمله ويشمل غيره ، وخبر يخصه ، خلافا لأبي ثور ، فإنه خصص الدباغ بالمأكول ، لأجل قوله : { أيما إهاب دبغ فقد طهر } ، مع إفراده ذكر الشاة في حديث ميمونة ، وقوله في قصة المجامع في رمضان ، مع قوله : { من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر } ، إن صح الخبر . ونقله عبد الوهاب في الملخص عن الأكثرين من فقهاء الشافعية ، فأما مذهبنا فيحتمل أن يتخرج فيه الخلاف ، إلا أن أجوبتهم تطرد على الأول . قال : ومثاله قوله لخولة في دم الحيض : ( اغسليه ) ، وفي حديث عمار : { إنما يغسل الثوب من المني والبول والدم } وحديث أسماء : { حتيه ، ثم اقرضيه ، ثم اغسليه بالماء } ، فذكر الماء وهو بعض ما دخل في اللفظ الأول . وقوله : { جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا } ، وقال في خبر آخر : { وترابها طهورا } ، والتراب بعض الأرض . وقوله : { الطعام مثلا بمثل } ، وقال في خبر آخر : { البر بالبر } فاختلفت أجوبة أصحابنا في هذه الأمثلة على المذهب جميعا . انتهى . [ ص: 301 ] وقال صاحب المصدر : إنما قال أبو ثور في قوله تعالى : { وللمطلقات متاع } وقوله : { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن } فأثبت المتعة للمطلقة التي هذه سبيلها ، فيجب أن يكون هذا هو المراد بالأول وأن لا يثبت لغير المطلقة التي لم تمس ولم يفرض لها ، والصحيح خلافه ، لأنه إنما يصار إلى التخصيص حيث التنافي . انتهى . وقد حكى أبو الحسين بن القطان قولين للشافعي في هذه الآية ، وسيأتي في التخصيص بالمفهوم ، وقضيته جريان قول الشافعي كمذهب أبي ثور .

                                                      وقد احتج الجمهور في عدم التخصيص بأن المخصص مناف ذكر الحكم في بعض الأفراد ليس بمناف ، فذكر الحكم ليس بمخصص . واعترض بمنع المقدمة الثانية ، وهي أن ذكر الحكم في بعض الأفراد ليس بمناف بناء على قاعدة المفهوم ، وفرق بين منافاة الحكم وبين منافاة الذكر ، فثبوت الحكم في بعض الأفراد ليس بمناف لثبوته في غيرها . وأما الذكر فلا نسلم عدم منافاته لأصل المفهوم الدال على نفي الحكم عما عداه . وهذا الاعتراض إنما يتأتى في ذكر الحكم في بعض الأفراد ، فتخصيصه بما له مفهوم مخالفة عند القائلين به كالصفة مثلا ولا يجيء في ذكر الحكم في بعض الأفراد بذكر ما لا مفهوم له كاللقب ، والذين أوردوا هذه المسألة أوردوها عامة ومن الناس من أنكر الخلاف في هذه المسألة ، وقال : لما كان أبو ثور ممن يقول بمفهوم اللقب ظن أنه يقول بالتخصيص ، وليس كذلك . ولعل أبا ثور يقول : إن هذه الصورة لا يجوز تخصيصها من العام ، وتصير قطعية لمحل السبب على ما سبق ، ولا ينبغي أن يقع فيه خلاف . فإن قلت : فعلى قول الجمهور ما فائدة هذا الخاص مع دخوله في العام ؟ [ ص: 302 ]

                                                      قلت : يجوز أن تكون فائدته عدم التخصيص ، أو التفخيم والمزية على بقية الأفراد ، أو اختصاصه بضرب من التأكيد ، إن جدت واقعة بعد ورود العام . وقد يرجع مذهب أبي ثور من جهة أنه يجوز استعمال العام وإرادة الخاص ، فيجوز أن يكون ذلك العام أريد به الخاص والقرينة فيه الإفراد . ولكنه خلاف الأصل . وهنا تنبيهات

                                                      الأول : قال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد : لا ينبغي أن يكتفى في تقرير هذه الفائدة ونسبة هذا المذهب لأبي ثور بهذا الحال ، لأن استنتاج الكليات من الجزئيات يعتمد كونها . . . الخصوصيات ، ويوجد القدر المشترك . وأما الفرد المعين فيحتمل أن يكون الحكم فيه لأمر يختصه . بيانه أن يعتقد أبو ثور أن الأصل عدم طهارة الجلد بالدباغ ، ويعتقد أن المأكول يختص بمعنى يناسب التطهير أو التخفيف فيجعل ذلك قرينة في تخصيص العموم ، كما جعل أصحاب الشافعي عدم اعتبار دباغ جلد الكلب قرينة تخص هذا العموم ، أو يمنع تطهير جلد ما لا يؤكل لحمه بنهي النبي عليه السلام عن افتراش جلود السباع كما استدل به بعضهم لهذا المذهب .

                                                      والمقصود : أنه إن كان أبو ثور نص على القاعدة فذاك ، وإن كان أخذ بطريق الاستنباط من مذهبه في هذه المسألة فلا يدل على ذلك .

                                                      قلت : وبذلك صرح أبو ثور في كتابه ، فقد حكى عنه أبو عمر بن عبد البر في التمهيد أنه إنما صار إلى تخصيص الدباغ بالمأكول لأجل قوله عليه السلام في جلد الشاة : { هلا دبغتموه } وقال في حديث آخر : { نهى عن جلود السباع } قال أبو ثور : فلما روي الخبران أخذنا بهما جميعا ، لأنه لا تناقض فيهما . انتهى . [ ص: 303 ] ويقال له : هذان الخبران كل واحد منهما عام من وجه ، خاص من وجه . فإن خبر السباع عام في جلود السباع قبل الدباغ وبعده ، وخاص بالسباع .

                                                      وحديث { أيما إهاب دبغ } ، عام في كليهما ، وخاص بالدباغ ، ويتأكد في مثله الترجيح بأمره خارج .

                                                      الثاني : أن صورة المسألة أن يكون الخاص مفهومه موافقا . فإن كان مفهوم مخالفة مثل : خبر القلتين ، وسائمة الغنم ، بالنسبة إلى قوله : { لا ينجسه شيء } وقوله : { في أربعين شاة شاة } ونحوه ، فهذه مسألة تخصيص العموم بالمفهوم ، وستأتي .

                                                      وبذلك صرح القاضي أبو الطيب الطبري . فقال : فأما إذا كان للخاص ، دليل خطاب ، فإنه يخص به العموم ، فيخرج منه ما تناوله دليله ، كقوله : { في أربعين شاة شاة } مع قوله : { في سائمة الغنم زكاة } ، فتخرج المعلوفة من قوله : { في أربعين شاة شاة } . فالمفهوم كالمنطوق في وجوب العمل به ، واللفظ الخاص يقضى به على العام ، فكذلك هاهنا . وكذلك قوله : { إذا بلغ الماء قلتين لا ينجسه شيء } ، مع قوله : { الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غيره } . [ ص: 304 ]

                                                      وقال الشيخ في " شرح الإلمام " : ينبغي أن يقيد محل الخلاف بالتخصيص بما ليس له مفهوم ، كاللقب ، فأما ما له مفهوم كالصفات ، فعلى القول بالمفهوم أجازوا تخصيص العموم به .

                                                      قلت : وبه صرح القفال الشاشي في كتابه ، فقال بعد قوله : إن ذلك لا يخصص أما إذا كان إفراد المخصوص بالذكر على معنى نفي مشاركة غيره إياه كما روي : { في سائمة الغنم زكاة } ، وروي : { في أربعين شاة شاة } ، فذكر السوم عند أصحابنا يدل على نفي الزكاة فيما ليست بسائمة ، وكأنه قيل : لا زكاة إلا في السائمة ، فإن لم يقم دليل على أن إفراده بالذكر على معنى مخالفة المسكوت عنه له في حكمه فإنه لا يجعل مخصصا للعموم ، لأن ذلك العموم يشتمل عليه وعلى غيره .

                                                      قال : ولولا قيام الدليل على أن قوله : { إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا } على أنه تحديد لدخل في جملة قوله : { الماء طهور لا ينجسه شيء } . انتهى . وكذا قال القاضي عبد الوهاب في الملخص : الخلاف في هذه المسألة إنما يتصور إذا عري اللفظ الخاص من وجود الأدلة التي تقتضي المنافاة سوى خصوصه في ذلك المسمى ، فإن كان معه ما يقتضي ذلك فلا خلاف في أنه يخص العموم إلا في المواضع التي يختلف فيها ، مثل أن يكون الحكم [ ص: 305 ] فيها متعلقا بصفة ، فيدل على ما عداه بخلافه عند القائلين بدليل الخطاب ، أو أن يكون فيه تعليل يوجد في بعض ما دخل تحت العموم ، فإذا عري من ذلك ففيه الخلاف .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية