الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم قالوا تالله تفتؤا [ ص: 69 ] تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون

                                                                                                                                                                                                                                        قوله عز وجل: قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فيه وجهان: أحدهما: بل سهلت.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: بل زينت لكم أنفسكم أمرا في قولكم إن ابني سرق وهو لا يسرق ، وإنما ذاك لأمر يريده الله تعالى. فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا يعني يوسف وأخيه المأخوذ في السرقة وأخيه المتخلف معه فهم ثلاثة. إنه هو العليم الحكيم يعني العليم بأمركم ، الحكيم في قضائه بما ذكرتم. قوله عز وجل: وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف فيه وجهان: أحدهما: معناه واجزعاه قاله مجاهد ، ومنه قول كثير :


                                                                                                                                                                                                                                        فيا أسفا للقلب كيف انصرافه وللنفس لما سليت فتسلت



                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: معناه يا جزعاه ، قاله ابن عباس . قال حسان بن ثابت يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم :


                                                                                                                                                                                                                                        فيا أسفا ما وارت الأرض واستوت     عليه وما تحت السلام المنضد



                                                                                                                                                                                                                                        وفي هذا القول وجهان: أحدهما: أنه أراد به الشكوى إلى الله تعالى ولم يرد به الشكوى منه رغبا إلى الله تعالى في كشف بلائه.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنه أراد به الدعاء ، وفيه قولان: أحدهما: مضمر وتقديره يا رب ارحم أسفي على يوسف. وابيضت عيناه من الحزن فيه قولان: أحدهما: أنه ضعف بصره لبياض حصل فيه من كثرة بكائه.

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 70 ] الثاني: أنه ذهب بصره ، قاله مجاهد . فهو كظيم فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه الكمد ، قاله الضحاك .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنه الذي لا يتكلم ، قاله ابن زيد.

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: أنه المقهور ، قاله ابن عباس ، قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                        فإن أك كاظما لمصاب شاس     فإني اليوم منطلق لساني



                                                                                                                                                                                                                                        والرابع: أنه المخفي لحزنه ، قاله مجاهد وقتادة ، مأخوذ من كظم الغيظ وهو إخفاؤه ، قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                        فحضضت قومي واحتسبت قتالهم     والقوم من خوف المنايا كظم



                                                                                                                                                                                                                                        قوله عز وجل: قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف قال ابن عباس والحسن وقتادة معناه لا تزال تذكر يوسف ، قال أوس بن حجر :


                                                                                                                                                                                                                                        فما فتئت خيل تثوب وتدعي     ويلحق منها لاحق وتقطع



                                                                                                                                                                                                                                        أي فما زالت. وقال مجاهد: تفتأ بمعنى تفتر. حتى تكون حرضا فيه ثلاثة تأويلات. أحدها: يعني هرما ، قاله الحسن. والثاني: دنفا من المرض ، وهو ما دون الموت ، قاله ابن عباس ومجاهد. والثالث: أنه الفاسد العقل ، قاله محمد بن إسحاق. وأصل الحرض فساد الجسم والعقل من مرض أو عشق ، قال العرجي.


                                                                                                                                                                                                                                        (إني امرؤ لج بي حب فأحرضني     حتى بليت وحتى شفني السقم



                                                                                                                                                                                                                                        أو تكون من الهالكين يعني ميتا من الميتين قاله الجميع.

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 71 ] فإن قيل: فكيف صبر يوسف عن أبيه بعد أن صار ملكا متمكنا بمصر ، وأبوه بحران من أرض الجزيرة؟ وهلا عجل استدعاءه ولم يتعلل بشيء بعد شيء؟ قيل يحتمل أربعة أوجه: أحدها: أن يكون فعل ذلك عن أمر الله تعالى ، ابتلاء له لمصلحة علمها فيه لأنه نبي مأمور.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنه بلي بالسجن ، فأحب بعد فراقه أن يبلو نفسه بالصبر.

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: أن في مفاجأة السرور خطرا وأحب أن يروض نفسه بالتدريج.

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع: لئلا يتصور الملك الأكبر فاقة أهله بتعجيل استدعائهم حين ملك. قوله عز وجل: قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله في بثي وجهان: أحدهما: همي ، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: حاجتي ، حكاه ابن جرير. والبث تفريق الهم بإظهار ما في النفس. وإنما شكا ما في نفسه فجعله بثا وهو مبثوث. وأعلم من الله ما لا تعلمون فيه تأويلان: أحدهما: أعلم أن رؤيا يوسف صادقة ، وأني ساجد له ، قاله ابن عباس . والثاني: أنه أحست نفسه حين أخبروه فدعا الملك وقال: لعله يوسف ، وقال لا يكون في الأرض صديق إلا نبي ، قاله السدي. وسبب قول يعقوب إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ما حكي أن رجلا دخل عليه فقال: ما بلغ بك ما أرى؟ قال: طول الزمان وكثرة الأحزان. فأوحى الله إليه: يا يعقوب تشكوني؟ فقال: خطيئة أخطأتها فاغفرها لي. وكان بعد ذلك يقول إنما أشكو بثي وحزني إلى الله

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية