الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين

                                                                                                                                                                                                                                      لما ذكر فيما تقدم حال الذين كفروا وسوقهم إلى جهنم ، ذكر هنا حال المتقين وسوقهم إلى الجنة فقال وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا أي : ساقتهم الملائكة سوق إعزاز وتشريف وتكريم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد سبق بيان معنى الزمر حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها جواب إذا محذوف .

                                                                                                                                                                                                                                      قال المبرد تقديره : سعدوا وفتحت ، وأنشد قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      فلو أنها نفس تموت جميعة ولكنها نفس تساقط أنفسا



                                                                                                                                                                                                                                      فحذف جواب لو ، والتقدير : لكان أروح . وقال الزجاج : القول عندي أن الجواب محذوف على تقدير : حتى إذا جاءوها ، وكانت هذه الأشياء التي ذكرت دخلوها فالجواب دخلوها وحذف لأن في الكلام دليلا عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأخفش [ ص: 1293 ] والكوفيون : الجواب فتحت والواو زائدة ، وهو خطأ عند البصريين ؛ لأن الواو من حروف المعاني فلا تزاد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : إن زيادة الواو دليل على أن الأبواب فتحت لهم قبل أن يأتوا لكرامتهم على الله ، والتقدير : حتى إذا جاءوها وأبوابها مفتحة بدليل قوله جنات عدن مفتحة لهم الأبواب [ ص : 50 ] وحذفت الواو في قصة أهل النار ، لأنهم وقفوا على النار وفتحت بعد وقوفهم إذلالا وترويعا .

                                                                                                                                                                                                                                      ذكر معناه النحاس منسوبا إلى بعض أهل العلم ، قال : ولا أعلم أنه سبقه إليه أحد .

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى هذا القول تكون الواو واو الحال بتقدير قد أي : جاءوها وقد فتحت لهم الأبواب .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : إنها واو الثمانية ، وذلك أن من عادة العرب أنهم كانوا يقولون في العدد : خمسة ستة سبعة وثمانية ، وقد مضى القول في هذا في سورة براءة مستوفى وفي سورة الكهف أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أخبر - سبحانه - أن خزنة الجنة يسلمون على المؤمنين فقال : وقال لهم خزنتها سلام عليكم أي : سلام لكم من كل آفة طبتم في الدنيا فلم تتدنسوا بالشرك والمعاصي .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مجاهد : طبتم بطاعة الله ، وقيل : بالعمل الصالح ، والمعنى واحد . قال مقاتل : إذا قطعوا جسر جهنم حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم حتى إذا هذبوا وطيبوا قال لهم رضوان وأصحابه سلام عليكم الآية فادخلوها أي : ادخلوا الجنة خالدين أي : مقدرين الخلود .

                                                                                                                                                                                                                                      فعند ذلك قال أهل الجنة الحمد لله الذي صدقنا وعده بالبعث والثواب بالجنة وأورثنا الأرض أي : أرض الجنة كأنها صارت من غيرهم إليهم فملكوها وتصرفوا فيها ، وقيل : إنهم ورثوا الأرض التي كانت لأهل النار لو كانوا مؤمنين . قاله أكثر المفسرين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : إنها أرض الدنيا ، وفي الكلام تقديم وتأخير نتبوأ من الجنة حيث نشاء أي : نتخذ فيها من المنازل ما نشاء حيث نشاء فنعم أجر العاملين المخصوص بالمدح محذوف أي : فنعم أجر العاملين الجنة ، وهذا من تمام قول أهل الجنة . وقيل : هو من قول الله - سبحانه - .

                                                                                                                                                                                                                                      وترى الملائكة حافين من حول العرش أي : محيطين محدقين به ، يقال : حف القوم بفلان إذا أطافوا به ، و من مزيدة قاله الأخفش ، أو للابتداء ، والمعنى : أن الرائي يراهم بهذه الصفة في ذلك اليوم ، وجملة يسبحون بحمد ربهم في محل نصب على الحال أي : حال كونهم مسبحين لله ملتبسين بحمده ، وقيل : معنى يسبحون يصلون حول العرش شكرا لربهم ، والحافين جمع حاف ، قاله الأخفش .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الفراء : لا واحد له إذ لا يقع لهم هذا الاسم إلا مجتمعين وقضي بينهم بالحق أي : بين العباد بإدخال بعضهم الجنة وبعضهم النار ، وقيل : بين النبيين الذين جيء بهم مع الشهداء وبين أممهم بالحق ، وقيل : بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب درجاتهم ، والأول أولى وقيل الحمد لله رب العالمين القائلون هم المؤمنون حمدوا الله على قضائه بينهم وبين أهل النار بالحق ، وقيل : القائلون هم الملائكة حمدوا الله - تعالى - على عدله في الحكم وقضائه بين عباده بالحق .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج البخاري ، ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دري في السماء إضاءة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرجا وغيرهما عن سهل بن سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمى باب الريان لا يدخله إلا الصائمون .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ورد في كون أبواب الجنة ثمانية أبواب أحاديث في الصحيحين وغيرهما .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن قتادة في قوله : وأورثنا الأرض قال : أرض الجنة . وأخرج هناد عن أبي العالية مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية