الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      المسألة الرابعة

                                                      أن المعطوف إذا كان خاصا لا يوجب التخصيص المذكور في المعطوف عليه عند أصحابنا ، ويوجبه عند الحنفية ، وقيل : بالوقف . لنا أن العطف لا يقتضي الاشتراك في هذه الأحكام . ومثال المسألة : احتجاج أصحابنا على أن المسلم لا يقتل بالذمي بقوله عليه الصلاة والسلام : { لا يقتل مؤمن بكافر } ، وهو عام في الحرب والذمي ، لأنه نكرة في سياق النفي . [ ص: 308 ] وقالت الحنفية : بل هو خاص ، والمراد به الحربي ، بقرينة عطف الخاص عليه ، وهو قوله : { ولا ذو عهد في عهده } لأنه عليه السلام عطف عليه قوله : { ولا ذو عهد في عهده } فيكون معناه ولا ذو عهد في عهده بكافر ، على حد قوله تعالى : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون } ثم إن الكافر الذي لا يقتل به ذو العهد هو الحربي فقط بالإجماع . لأن المعاهد يقتل بالمعاهد ، فيجب أن يكون الكافر الذي لا يقتل به المسلم أيضا هو الحربي ، تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه . وهذا التقدير ضعيف لوجوه .

                                                      أحدها : أن العطف لا يقتضي الاشتراك بين المتعاطفين من كل وجه .

                                                      الثاني : أن قوله : { ولا ذو عهد في عهده } كلام تام ، فلا يحتاج إلى إضمار قوله : بكافر ، لأن الإضمار خلاف الأصل ، والمراد حينئذ أن العهد عاصم من القتل .

                                                      وقد ذهب أبو عبيد في " غريب الحديث " إلى ذلك فقال : إن قوله : { ولا ذو عهد في عهده } جملة مستأنفة ، وإنما قيده بقوله : " في عهده " ، لأنه لو اقتصر على قوله : " ولا ذو عهد " لتوهم أن من وجد منه عهد ، ثم خرج منه ، لا يقتل ، فلما قال : " في عهده " علمنا اختصاص النهي بحالة العهد .

                                                      فإن قيل : ما وجه الارتباط بين هاتين الجملتين على رأيكم ؟ إذ لا يظهر [ ص: 309 ] مناسبة لقولنا : { ولا ذو عهد في عهده } مطلقا مع قولنا : { لا يقتل مسلم بكافر } . أجاب أبو إسحاق المروزي : بأن عداوة الصحابة للكفار كانت شديدة جدا ، فلما قال عليه السلام { لا يقتل مسلم بكافر } خشي أن يتجرد هذا الكلام ، فتحملهم العداوة الشديدة بينهم على قتل كل كافر من معاهد وغيره ، فعقبه بقوله ما معناه : ولا ذو عهد في زمن عهده

                                                      الثالث : أن حمل الكافر المذكور على الحربي لا يحسن ، لأن هدر دمه من المعلوم من الدين بالضرورة ، فلا يتوهم أحد قتل مسلم به ، ويبعد هذا الجواب قليلا أمران :

                                                      أحدهما أن مدلول الحديث مستغنى عنه بما دل عليه قوله تعالى : { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } فالحمل على فائدة جديدة أولى .

                                                      وثانيها : أن صدر الحديث نفى فيه القتل قصاصا لا مطلق القتل ، فقياس آخره أن يكون كذلك .

                                                      الرابع : سلمنا صحة التقدير ، لكن لا نسلم لزوم تساوي الدليل والمدلول عليه ، لأنهما كلمتان لو لفظ بهما ظاهرتين أمكن أن يراد بإحداهما غير ما أريد به بالأخرى ، فكذلك منع ذكر إحداهما ، وتقدير الأخرى ، ويؤيده عموم : " والمطلقات " وخصوص " وبعولتهن " مع عود الضمير عليه .

                                                      إذا علمت هذا ، فاعلم أنه قد اختلف طرق الأصوليين في ترجمة هذه المسألة ، فمنهم من ترجمها كما ذكرنا ، وادعى أنه الصواب كما سيأتي ، ومنهم من ترجمها كالآمدي في " الأحكام " بأن العطف على العام : هل يقتضي العموم في المعطوف ؟ وهذه تشمل ما لا خلاف فيه ، وهي ما لو قال : لا [ ص: 310 ] يقتل مسلم بكافر ، ولا ذو عهد في عهده بحربي ، فلا يقول أحد باقتضاء العطف على العام العموم ، حتى لا يقتل المعاهد بكافر ، حربيا كان أو ذميا .

                                                      ومنهم من ترجمها كالإمام فخر الدين والبيضاوي والهندي ، وغيرهم ، بأن عطف الخاص لا يقتضي تخصيصه . وناقشهم النقشواني وغيره بأن هذه العبارة تشمل صورتين :

                                                      إحداهما : عام معطوف على عام ، قام الدليل على أنه مخصوص ، كقولك : لا تضرب رجلا ولا امرأة ، ثم تبين لنا أن المراد بالمرأة غير القاذفة أو شاربة الخمر ، ووزانه هنا أن يقال : لا يقتل مسلم بكافر ، ثم يخصص الكافر في المعطوف عليه بدليل .

                                                      والثانية : عطف خاص بلفظه على عام بلفظه ، فهل يقتضي ذلك تخصيص الأول : كقولنا لا تضرب رجلا ولا امرأة كهلة ؟ فهل يخص الرجل بالكهل أيضا ؟ ووزانه هنا أن يقال : لا يقتل مسلم بكافر ، ولا ذو عهد بحربي . قالوا : ومثالهم إنما هو من القسم الأول ولم يتعرضوا للثانية ، والإمام ترجم للثانية ومثاله إنما يطابق الأولى ، وحينئذ فكان من حقه أن يقول : إن تخصيص المعطوف ، يقتضي تخصيص علته ، ونازعه الأصفهاني شارح " المحصول " وقال : بل كلامهم يشمل الصورتين ، فإنهم أطلقوا الخاص ومرادهم سواء كان خاصا لفظا أو دل الدليل على أنه مخصوص ، وتبعه الشيخ شمس الدين الأصفهاني من المتأخرين في مصنف مفرد في هذه المسألة قال : والحق أن ترجمة الإمام تعم المسألتين ، فإن الخاص أعم من أن يكون خصوصه بدليل منفصل أو غيره . [ ص: 311 ] لكن الحق أن المسألة وإن كانت عامة ، تقع على ثلاثة أوجه :

                                                      أحدها : أن يكون الخاص مذكورا في المعطوف من غير تقدير .

                                                      الثاني : أن يكون مقدرا لكن لا يكون تقديره مستفادا من المعطوف عليه .

                                                      والثالث : أن يكون تقديرا من حيث العموم مستفادا من المعطوف عليه ، ومن حيث الخصوص مستفادا من تخصيص بمنفصل ، والحديث من الوجه الثالث والبيان في الجميع لا يتفاوت . انتهى . والحق أن يقال : المقصود بالمسألة إنما هو أن إحدى الجملتين إذا عطفت على الأخرى ، وكانت الثانية تقتضي إضمارا كقوله : { ولا ذو عهد في عهده } على ما تدعيه الحنفية ، فإنها لا تستقيم عندهم بدون إضمار ، وإلا يلزم قتل المعاهد مطلقا ، فهل يضمر ما تقدم ذكره ؟ ثم إن كان عاما اقتضى العطف عليه تقدير العام ، فكان العطف على العام يقتضي العموم لذلك ، أو يضمر مقدار ما يستقل به الكلام فقط ، لأن ما وراءه تقدير لا حاجة إليه ، قالت الحنفية : بالأول ، وأصحابنا بالثاني .

                                                      وقد أجاد ابن السمعاني في " القواطع " حيث افتتح المسألة بقوله : المعطوف لا يجب أن يضمر فيه جميع ما يمكن إضماره مما في المعطوف عليه ; بل بقدر ما يفيد ويستقل به ، وعند الحنفية جميع ما سبق مما يمكن إضماره . انتهى . وكذا ابن الصباغ في " العدة " حيث قال : هل يجب أن يضمر في المعطوف جميع ما يمكن إضماره مما في المعطوف عليه ؟ وإذا وجب ذلك ، وكان المضمر في المعطوف عليه مخصوصا ، فهل يجب أن يكون المضمر في المعطوف عليه مخصوصا أم لا ؟ والحاصل أن الخلاف في أنه هل يجب تقدير ما ذكر في الأولى ، أو ما يستقل به الكلام فقط ؟ فنحن لا نقدر إلا ما يستقل به الكلام فقط ، [ ص: 312 ] والحنفية يجعلون المضمر في الثانية هو المضمر في الأولى . وقالوا : حرف العطف يجعل المعطوف والمعطوف عليه كالشيء الواحد ، وذلك يقتضي التسوية بينهما في أصل الحكم وتفاصيله ، وساعدهم جماعة من أصحابنا ، حتى قال ابن السمعاني : كلامهم ظاهر جدا . وقال ابن الحاجب : إنه الصحيح .

                                                      وفصل بعض الحنابلة بين أن يقيد المعطوف بقيد غير قيد المعطوف عليه ، فلا يضمر فيه ، وأن يطلق فيضمر فيه ، ونقل بعض المتأخرين من أصحابهم أنهم إنما يقولون بتخصيص العام المعطوف عليه بخصوص الخاص المعطوف فيما هو مخصوص المادة كالحديث ، ونحوه وهو أن يكون المذكور في الموضعين . أما إذا لم يتعين ، كما لو قال : ضربت زيدا وعمرا قائما في الدار ، فإن المعطوف هنا خاص ، وهو أن ضربت في حال قيامه وحال كونه في الدار ، والمعطوف عليه عام ، فلا يقولون بتخصيص المعطوف عليه .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية