الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              4314 [ ص: 243 ] 17 - باب: قوله: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها الآية [النساء: 93]

                                                                                                                                                                                                                              4590 - حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا شعبة، حدثنا مغيرة بن النعمان، قال: سمعت سعيد بن جبير قال: آية اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها، فقال: نزلت هذه الآية ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم [النساء: 93] هي آخر ما نزل وما نسخها شيء.

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه عن سعيد بن جبير : آية اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها، فقال: نزلت هذه الآية ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم [النساء: 93] هي آخر ما نزل، وما نسخها شيء.

                                                                                                                                                                                                                              أي: من آخر ما نزل، وروي عن زيد بن ثابت : نزلت الشديدة (قبل) -أي: الهينة- بستة أشهر ومن يقتل مؤمنا متعمدا بعد التي في الفرقان والذين لا يدعون مع الله إلها آخر إلى قوله: إلا من تاب [الفرقان: 68 - 70] ومعنى الآية إن جازاه بذلك.

                                                                                                                                                                                                                              وحكي عن ابن عباس : وليس من صدوره الوعيد رجوعه، أو إن فعله مستحلا، وقوله: إن الله لا يغفر أن يشرك به [النساء: 48] فشرط المشيئة في الذنوب كلها قائم، ما عدا الشرك.

                                                                                                                                                                                                                              وقال بعض العلماء عند قراءة الآية: هذا وعيد شديد في القتل، حظر الله به الدماء، وقيل: إن آية المشيئة خبر لا يدخله النسخ، لأن

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 244 ] إخباره صدق لا يدخله نسخ، وآية النساء والفرقان محكمتان، وقد قال تعالى بعد ذلك: إن الله لا يغفر أن يشرك به وقال الطبري : جزاؤه جهنم حقا، ولكن الله يعفو ويتفضل على من آمن، فلا يجازيه بالخلود، وكانت الصحابة إذا سئلوا عنه قبل نزوله غلقوا، وإذا نزل لم يفسروه، وتلا عمر - رضي الله عنه - أول حم غافر.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر الواحدي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن مقيس بن صبابة الليثي وجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجار، وكان مسلما، فأتى مقيس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فأرسل معه رسولا من بني فهر إلى بني النجار، فأمرهم إن علموا قاتله فدفعوه إلى أخيه فيقتص منه، وإن لم يعلموا قاتلا أن يدفعوا إليه الدية. قالوا: سمعا وطاعة، والله ما نعلم له قاتلا، ولكنا نؤدي إليه ديته. فأعطوه مائة من الإبل، فوسوس إليه الشيطان قتل الفهري ، فرجع إلى مكة كافرا وأنشد شعرا، فأنزل الله هذه الآية ثم أهدر الشارع دمه يوم الفتح فقتل بأسياف المسلمين بالسوق. وذكر مقاتل أن الفهري اسمه عمرو .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              أثر ابن عباس جاء في رواية أخرى في سورة تبارك هذه -يعني: ولا يقتلون النفس - آية مكية نسختها آية مدنية ومن يقتل مؤمنا متعمدا .

                                                                                                                                                                                                                              وفي أخرى: فأما من دخل في الإسلام وعقل فلا توبة له.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 245 ] وفي أخرى: فأمرني عبد الرحمن بن أبزى أن أسأل عبد الله .

                                                                                                                                                                                                                              كذا وقع في مسلم ، ولعله -كما قال القاضي: أمرني ابن عبد الرحمن . ولعبد الرحمن ولدان: سعيد وعبد الله. قال: ولا يمتنع أن يكون عبد الرحمن أمر سعيد بن جبير يسأل ابن عباس عما يعلمه عبد الرحمن ، فقد سأل ابن عباس أكبر من عبد الرحمن وأقدم صحبة، وكان عبد الرحمن بالكوفة، فرحل سعيد إلى ابن عباس كما قال له ابن أبزى .

                                                                                                                                                                                                                              وروى النسائي عن سالم بن أبي الجعد أن ابن عباس سئل عمن قتل مؤمنا متعمدا، ثم تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى، فقال: وأنى له التوبة وقد سمعت نبيكم - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يجيء متعلقا بالقاتل تشخب أوداجه دما يقول: أي رب سل هذا فيم قتلني؟ " ثم قال عبد الله : والله لقد أنزلها الله ثم ما نسخها.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (فرحلت) هو بالحاء المهملة، وهو الصحيح كما نبه عليه النووي في نسخة ابن ماهان، فدخلت بدال ثم خاء معجمة. وله وجه بأن يكون بمعناه كدخلت بعد رحلتي.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              حكى أبو جعفر النحاس في الآية أقوالا: أحدها: لا توبة. روي عن ابن عباس وزيد بن ثابت ، قال زيد: لما نزلت آية الفرقان عجبنا للينها، فلبثنا سبعة أشهر، وقيل: ستة -حكاه الثعلبي - فنزلت آية

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 246 ] النساء. وحكي عن ابن مسعود أيضا، وحكاه ابن أبي حاتم عن عمر وأبي هريرة وغيرهما، والآية محكمة.

                                                                                                                                                                                                                              وفي مسلم أن رجلا قال لابن عمر : ألا تسمع ما يقول الله: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا الآية، فما يمنعك أن لا تقاتل كما أمر الله؟ فقال: يا ابن أخي، أغتر بهذه الآية ولا أقاتل أحب إلي من أن أغتر بالآية التي يقول الله فيها: ومن يقتل مؤمنا متعمدا .

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: له توبة. وبه قال جماعة منهم ابن عمر ، وهو أيضا مروي عن ابن عباس وزيد بن ثابت . قال ابن عباس في السائل بالنفي، فقيل له: كنت تفتينا بالقبول. فقال: إني لأحسبه رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا. فوجد كما قال. وكذا وقع لسفيان. أراد بالنفي تعظيم الأمر، وبالثاني ترك الناس -كما جرى لمن قتل تسعة وتسعين رجلا، وآية النساء: دخلها التخصيص، فإنه لو قتله في حال كفره ثم أسلم فلا عقوبة في الدنيا والأخرى، وقد قال تعالى: وإني لغفار لمن تاب [طه: 82] وهو الذي يقبل التوبة عن عباده [الشورى: 25].

                                                                                                                                                                                                                              وقد اختلف عن ابن عباس أيضا، فروي عنه: آية الفرقان نزلت في أهل الشرك. وعنه: نسختها الآية التي في النساء: -كما سلف.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 247 ] قال ابن الحصار: الآيتان لم يتواردا على حكم واحد؛ لأن آية الفرقان نزلت في الكفار وآية النساء في المؤمن، فلا تعارض، وقد قال تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وقال فيمن قتل عمدا: فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان [البقرة: 178] فأثبت له أخوة الإسلام. وقال: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا الآية [الحجرات: 9]، وإنما لا يغفر الله لمن لا يستغفر، ولا يتوب على من لا يتوب، ولكن تكرر منه قتل المؤمنين، وقتالهم وإن كان متأولا فهو على ذنب عظيم؛ لأنه لا ينفك عن سوء عقيدته، وقد يحمله ذلك على الاستباحة كما سلف عن ابن عمر رضي الله عنهما.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: وذهب كثير إلى أن آية النساء: منسوخة. فقيل: نسختها آية الفرقان. وقال أكثرهم: بقوله: إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية.

                                                                                                                                                                                                                              وقال كثير: إنها محكمة، ثم اختلفوا في وجه إحكامها، فذهب عكرمة على حملها على الاستحلال، وخصت الآية بذلك لنزولها في رجل قتل مؤمنا وارتد كما سلف، وغلط النحاس هذا الحمل؛ لعموم ومن وقد سلف التخصيص، وذكر الخلود لا يقتضي التأبيد؛ لأنه قد يأتي بمعنى امتداد الحين، تقول العرب: لأخلدن فلانا في السجن. وقال القاضي إسماعيل في كتابه: هذا حكم من أحكام الآخرة ليس بالناس حاجة إلى أن يبرموا قولا غير أنا نرجو القبول من المسلم.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 248 ] القول الثالث: أن أمره إلى الله تاب أو لم يتب، وعليه الفقهاء أبو حنيفة وأصحابه والشافعي يقول في كثير من هذا: إلا أن يعفو الله عنه أو معناه.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها: قال أبو مجلز: المعنى: جزاؤه إن جازاه، وهو غلط؛ لأن الله قال: جزاؤهم جهنم بما كفروا [الكهف: 106] ولم يقل أحد معناه: إن جازاهم. وهو أيضا خطأ في العربية؛ لأن بعده وغضب الله عليه ، وهو قول على معنى جزاه.

                                                                                                                                                                                                                              وعن ابن عباس -فيما ذكره الثعلبي : لا أعلم له توبة، إلا أن (يستغفر) الله، قال السخاوي : وهو الصحيح عنه إن شاء الله، إذ أجمع المسلمون على صحة توبة قاتل العمد، وكيف لا تصح توبته، وتصح توبة الكافر والمرتد، يقتلان مؤمنا ثم أسلما، قال عبد الله كنا معشر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نشك في قاتل المؤمن، وآكل مال اليتيم، وشاهد الزور، وقاطع الرحم -يعني لا نشك في الشهادة لهم بالنار- حتى نزلت ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . فأمسكنا عن

                                                                                                                                                                                                                              الشهادة لهم. فقول أبي هريرة وابن عمر وابن عباس في جواب السائل عن قتل العمد: هل تستطيع أن تحييه؟! على وجه التعظيم.

                                                                                                                                                                                                                              وعند الخوارج والمعتزلة أن المؤمن إذا قتل مؤمنا أن هذا الوعيد لاحق به، وقالت المرجئة: نزلت في كافر قتل مؤمنا، فأما مؤمن قتل مؤمنا لا يدخل النار؛ وقالت طائفة من أهل الحديث: نزلت في مؤمن

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 249 ] قتل مؤمنا، والوعيد عليه ثابت إلا أن يتوب أو يستغفر، وقالت طائفة: كل مؤمن قتل مؤمنا، فهو مخلد في النار غير مرية ويخرج منها بشفاعة الشافعين، وعندنا أن المؤمن إذا قتل مؤمنا لا يكفر به، إلا أن يستحل. فإن افتدى ممن قتله فذلك كفارة له كما جاء في الحديث، وإن كان تائبا من ذلك ولم يكن مقادا من قبل كانت التوبة أيضا كفارة له، فإن خرج من الدنيا بلا توبة ولا قود، فأمره إلى الله، والعذاب قد يكون نارا وقد يكون غيرها في الدنيا؛ ألا ترى إلى قوله: يعذبهم الله بأيديكم [التوبة: 14] يعني بالقتل والأسر؟!

                                                                                                                                                                                                                              يدل قوله: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة [المائدة: 6] فخاطب القاتلين بما خاطب المصلين وقال: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا واقتتالهم كان على العمد لا على الخطإ، وروي أن مؤمنا قتل مؤمنا متعمدا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يأمر القاتل بالإيمان من فعله ولو كفر لأمر به، ولا أنه حرم عليه أهله، وتعلق الخوارج والمعتزلة بالآية، وقد سلف جواب ذلك، وأنها نزلت في كافر قتل مؤمنا متعمدا؛ ثم لو سلم نزولها في مؤمن قتل مؤمنا فلا يسلم أن الخلود التأبيد، بدليل قوله: وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد [الأنبياء: 34].

                                                                                                                                                                                                                              وقوله أفإن مت فهم الخالدون وقوله: يحسب أن ماله أخلده [الهمزة: 3] وإنما يعني في الدنيا. ثم الخلود معناه غير معنى التأبيد وأما الغضب فهو جزاء أيضا، وقد يرد الماضي والمراد المستقبل.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية