الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولقائل أن يقول: هذا الدليل أضعف بكثير مما ذكره الرازي، ولهذا لم يعرج الرازي على هذا لضعفه، واستدل بدليل الحركة والسكون، كما استدل به من استدل من المعتزلة، فإن هذا الدليل مبني على مقدمتين إحداهما: أن الأعراض جميعها ممتنعة البقاء، وجمهور [ ص: 452 ] العقلاء من أهل الكلام وغيرهم من أصناف الناس ينكرون ذلك، بل يقولون: إن هذا خلاف الحس والضرورة، ويجعلونه من جنس قول النظام: إن الأجسام أيضا لا تبقى.

وعمدة من قال بامتناع بقائها: أن العرض لو جاز لامتنع عدمه، لأن العدم لا يجوز أن يكون بحدوث ضده، فإن الحادث إنما يحدث في حال عدم الثاني لامتناع اجتماع الضدين، لأنه ليس عدم الثاني لطريان الحادث بأولى من العكس، ولا يجوز أن يكون بفعل القادر المختار، لأن العدم نفي محض، وفعل الفاعل لا يكون نفيا محضا.

ومعلوم أن هذا كلام ضعيف، فإنه يمكن عدمه بالإعدام، وفعل الإعدام ليس فعلا لعدم مستمر، بل هو إحداث لعدم ما كان موجودا، كما أن إحداث الوجود إحداث لوجود ما كان معدوما، وهذا أمر متجدد يعقل كونه مفعولا للفاعل.

وأيضا فالضد الحادث إذا قدر أنه أقوى من الباقي، كان إزالته له لفضل قوته، فإن كون العرضين متضادين لا يستلزم تساويهما وتماثلهما في القوة والضعف.

وأيضا فإن الفاعل المحدث للعرض الحادث يجعله مزيلا لذلك الباقي دون العكس.

ولولا أن هذا ليس موضع بسط الكلام في مثل هذه الأمور، وإلا لكان ينبغي أن نبين أن مثل هذا الكلام من أسخف الكلام الذي ذمه [ ص: 453 ] السلف والأئمة وغيرهم من العقلاء. فإن هؤلاء يقولون: إن الله لا يمكن أن يفني شيئا من الأجسام والأعراض، بل طريق فنائها أنه لا يخلق الأعراض التي تحتاج إلى تجديد وإحداث دائما، فإذا لم يحدثها عدمت الأجسام وفنيت بأنفسها، لأنه لا وجود لها إلا بالأعراض، ومثل هذا الكلام لو قاله الصبيان لضحك منهم.

وأما المقدمة الثانية فهو وجوب تناهي الحوادث، وقد تقدم كلامهم في إفساد جميع ما استدل به على ذلك. والطريقة التي قررها الآمدي قد تقدم اعتراض الأرموي وغيره عليها وبيان فسادها.

فهذا جملة ما احتج به هؤلاء الذين هم فحول النظر وأئمة الكلام والفلسفة في هذه المسائل. وقد تبين بكلام بعضهم في بعض إفساد هذه الدلائل. وهذا جملة ما يعارضون به الكتاب والسنة، ويسمونه قواطع عقلية، ويقولون: إنه يجب تقديم مثل هذا الكلام على نصوص التنزيل والثابت من أخبار الرسول وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها.

فلو لم يكن في المعقول ما يوافق قول الرسول لم تجز معارضته [ ص: 454 ] بمثل هذا الكلام، فضلا عن تقديمه عليه، فكيف والمعقول الصريح موافق لما جاء به الرسول كما بين في موضعه، بل لا يجوز أن تعارض بمثل هذا الكلام الأحكام الثابتة بالعمومات والأقيسة والظاهر وأخبار الآحاد، فكيف تعارض بذلك النصوص الثابتة عن المعصوم؟.

بل مثل هذا الكلام لا يصلح لإفادة ظن ولا يقين، وإنما هو كلام طويل بعبارات طويلة وتقسيمات متنوعة يهابه من لم يفهمه، وعامة من وافق عليه وافق عليه تقليدا لمن قاله قبله، لا عن تحقيق عقلي قام في نفسه.

وكلام السلف والأئمة في ذم مثل هذا الكلام الذي احتجوا فيه بطريقة الأعراض والجواهر على حدوث الأجسام وإثبات الصانع كثير منتشر قد كتب في غير هذا الموضع. وكل من أمعن نظره وفهم حقيقة الأمر علم أن السلف كانوا أعمق من هؤلاء علما، وأبر قلوبا، وأقل تكلفا، وأنهم فهموا من حقائق الأمور ما لم يفهمه هؤلاء الذين خالفوهم، وقبلوا الحق وردوا الباطل، والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية