[ ص: 2429 ] بسم الله الرحمن الرحيم
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=2هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=3وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=4وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=5فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=6ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين
كان ختام السورة السابقة إثبات سلطان الله تعالى الكامل، وقدرته الشاملة، وأنه لا يعجزه شيء في السماء ولا في الأرض؛ إذ قال سبحانه:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=120لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير وفي هذه الآية يبين سبحانه السبب في كمال سلطانه، والمظهر الأعظم لكمال قدرته، وهو خلق
[ ص: 2430 ] السماوات والأرض وخلق الإنسان؛ فإن هذا من أسباب السلطان الكامل على السماوات والأرض ومن فيهن، وهو مظهر كامل لكمال قدرته سبحانه وتعالى، وهذا قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون
الحمد معناه اللغوي: الثناء على المحمود بالفعل الاختياري الذي يقوم به، فلا يحمد على فعل كان بالجبلة والتسخير، إنما الحمد يكون ثناء على فعل اختياري، الحمد بمعنى الثناء مراتب، أدناه الثناء على العباد في أعمالهم الاختيارية. واستعماله في القرآن في الثناء على العباد قليل إلا إذا كان في التنديد بطلبهم للحمد مثل قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=188ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا وأعلى من هذا مرتبة الثناء على الله تعالى بما هو أهله، وذكر صفاته، والإحساس بجلائل نعمه، ولهج لسان العبد بهذه النعم.
والمرتبة العليا شكر هذه النعم والخضوع المطلق له سبحانه، والقيام بحق عبادته، وإفراده بالعبودية، وإن ذلك هو المطلوب من العباد، وهو أعلى الشكر، وقد قال سبحانه:
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=7لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد والشكر امتلاء القلب بذكر الله تعالى وذكر نعمه، وشكرها، وهو الذي طالب به القرآن الكريم كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=47اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم و: "أل" هنا للاستغراق، والمعنى: أن المستحق لكل أنواع الحمد ومراتبها هو الله تعالى، فهو المستحق للعبادة، وهي أعلى درجات الحمد، وهو الجدير بكل حمد دون غيره، وإذا كان ثمة حمد للعباد فهو إن كان على خير أسدوه كان حمد الله تعالى لتوفيقهم وعونهم، وإن كان الدافع على الثناء غير الخير، فهو ليس بحمد، وإنما هو كذب وافتراء على الحق وتعاون على الشر. وقد ذكر سبحانه أسباب ذلك الحمد الذي بلغ أعلى درجاته، فقال تعالت كلماته:
[ ص: 2431 ] nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور هذا وصف لله سبحانه وتعالى يثبت كمال حق العبودية له وحده، وأنه لا يستحق الحمد الكامل سواه، ولقد يقول الصوفية: إن العبودية لله تعالى ثلاث مراتب: أولاها: أن يعبدوه لذاته.
والثانية: أن يعبدوه لصفة من صفاته كصفة الخلق والتكوين.
والثالثة: أن يعبدوه لتكمل نفوسهم، ويحسوا بفضل الطاعة، وهذا النص يفيد أن حمد الله تعالى; لأنه خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، والحق أن المراتب الثلاث لا تباعد بينها، فمن يعبد الله لذاته، فإن ذاته تعرف بصفاته، ومن يرى شرفه في عبادة الله وحده، فهو يتسامى.
والقول الجملي: أن الذكر لخلق السماوات والأرض لبيان سلطان الله تعالى وقدرته واستحقاقه وحده الألوهية; بدليل قوله سبحانه بعد ذلك:
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1ثم الذين كفروا بربهم يعدلون
وهنا بعض المباحث اللفظية التي نتعرض لها; لأنه يكون تقريبا لمعاني الإعجاز في النص:
المبحث الأول: التعبير في خلق السماوات والأرض ب "خلق"، وفي الظلمات والنور ب "جعل"، فنقول: الخلق معناه الإنشاء الابتدائي هنا، والجعل يتضمن معنى تكوين شيء من شيء أو شيئين، وقد يتضمن الخلق ذلك المعنى بقرينة; وهنا المتبادر من المعنى أن الله تعالى أنشأ السماوات والأرض إنشاء، وجعل منها الظلمات والنور، فمن اختفاء الشمس عن الأرض يكون ظلام الليل، ومن بزوغ الشمس على الأرض يكون النور، وذلك كله بجعل الله تعالى، وبأصل التكوين والتقدير من العزيز العليم.
المبحث الثاني: لماذا جمع "الظلمات" وأفرد "النور"؟ والجواب عن ذلك: أن النور واحد، من نتائجه الكشف والظهور، وتعدد أسبابه لا يغير حقيقته، أما الظلمة فإنها متنوعة بتنوع أسبابها؛ فهناك ظلمة الليل، وهناك ظلمة المحابس،
[ ص: 2432 ] وهناك ظلمة القبور، وهناك ظلمة الغمام، وهي تتغير حقائقها بتغير أسبابها، ثم ثمة إشارة إلى أمر معنوي، وهي أن ظلمة الإدراك تتعدد حقائقها، فهناك ظلمة الانحراف، وظلمة الأهواء والشهوات وطمس القلوب، والنور واحد،
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=153وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله فالنور في هذا واحد.
المبحث الثالث: لماذا أفردت الأرض وجمعت السماوات مع أنه قد وردت نصوص تعتبر الأرض سبعا كالسماوات؟ والجواب عن ذلك: أنه في كثير من المواضع تفرد وتجمع السماء في مثل قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=30أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون
وإنما تعدد السماوات لعظمها، ولإحاطتها بالأرض، ولما فيها من الآيات البارزة، ولتزيينها بالنجوم، ولأنه لم يعلم أن الله تعالى قد عصي فيها، ولأن طبقاتها متمايزة ينفصل بعضها عن بعض، والأرض طبقاتها متصلة.
المبحث الرابع: ما الذي كان العطف عليه في قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ولماذا عطف بـ: "ثم"؟ أما الجواب عن الجزء الأول فهو أن الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، وهو وحده يستحق الحمد، ثم مع ذلك يجعل الذين كفروا بسبب ضلالهم مثلا يعدلونه به، وهو أصنامهم، أو ما يزعمون من آلهة، والتعبير بـ: "ثم" للبعد بين الحقيقتين، فالحقيقة الأولى التي توجب توحيد الله تعالى وحده، والثانية: ما يقع من هؤلاء الكافرين على غير بينة ولا إدراك، ولقد قرر الله تعالى الحقيقة الثابتة، فقال عز من قائل:
[ ص: 2429 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=2هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=3وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=4وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=5فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=6أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ
كَانَ خِتَامُ السُّورَةِ السَّابِقَةِ إِثْبَاتَ سُلْطَانِ اللَّهِ تَعَالَى الْكَامِلِ، وَقُدْرَتِهِ الشَّامِلَةِ، وَأَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ؛ إِذْ قَالَ سُبْحَانَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=120لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ يُبَيِّنُ سُبْحَانَهُ السَّبَبَ فِي كَمَالِ سُلْطَانِهِ، وَالْمَظْهَرُ الْأَعْظَمُ لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَهُوَ خَلْقُ
[ ص: 2430 ] السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَخَلْقُ الْإِنْسَانِ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَسْبَابِ السُّلْطَانِ الْكَامِلِ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَهُوَ مَظْهَرٌ كَامِلٌ لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ
الْحَمْدُ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ: الثَّنَاءُ عَلَى الْمَحْمُودِ بِالْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ الَّذِي يَقُومُ بِهِ، فَلَا يُحْمَدُ عَلَى فِعْلٍ كَانَ بِالْجِبِلَّةِ وَالتَّسْخِيرِ، إِنَّمَا الْحَمْدُ يَكُونُ ثَنَاءً عَلَى فِعْلٍ اخْتِيَارِيٍّ، الْحَمْدُ بِمَعْنَى الثَّنَاءِ مَرَاتِبُ، أَدْنَاهُ الثَّنَاءُ عَلَى الْعِبَادِ فِي أَعْمَالِهِمُ الِاخْتِيَارِيَّةِ. وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْقُرْآنِ فِي الثَّنَاءِ عَلَى الْعِبَادِ قَلِيلٌ إِلَّا إِذَا كَانَ فِي التَّنْدِيدِ بِطَلَبِهِمْ لِلْحَمْدِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=188وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا وَأَعْلَى مِنْ هَذَا مَرْتَبَةً الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَذِكْرِ صِفَاتِهِ، وَالْإِحْسَاسِ بِجَلَائِلَ نِعَمِهِ، وَلَهْجِ لِسَانِ الْعَبْدِ بِهَذِهِ النِّعَمِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الْعُلْيَا شُكْرُ هَذِهِ النِّعَمِ وَالْخُضُوعُ الْمُطْلَقُ لَهُ سُبْحَانَهُ، وَالْقِيَامُ بِحَقِّ عِبَادَتِهِ، وَإِفْرَادُهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنَ الْعِبَادِ، وَهُوَ أَعْلَى الشُّكْرِ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=7لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ وَالشُّكْرُ امْتِلَاءُ الْقَلْبِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَذِكْرِ نِعَمِهِ، وَشُكْرُهَا، وَهُوَ الَّذِي طَالَبَ بِهِ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=47اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ وَ: "أَلْ" هُنَا لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِكُلِّ أَنْوَاعِ الْحَمْدِ وَمَرَاتِبِهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ، وَهِيَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْحَمْدِ، وَهُوَ الْجَدِيرُ بِكُلِّ حَمْدٍ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ ثَمَّةَ حَمْدٌ لِلْعِبَادِ فَهُوَ إِنْ كَانَ عَلَى خَيْرٍ أَسْدَوْهُ كَانَ حَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى لِتَوْفِيقِهِمْ وَعَوْنِهِمْ، وَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ عَلَى الثَّنَاءِ غَيْرَ الْخَيْرِ، فَهُوَ لَيْسَ بِحَمْدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى الْحَقِّ وَتَعَاوُنٌ عَلَى الشَّرِّ. وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَسْبَابَ ذَلِكَ الْحَمْدِ الَّذِي بَلَغَ أَعْلَى دَرَجَاتِهِ، فَقَالَ تَعَالَتْ كَلِمَاتُهُ:
[ ص: 2431 ] nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ هَذَا وَصْفٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُثْبِتُ كَمَالَ حَقِّ الْعُبُودِيَّةِ لَهُ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ الْكَامِلَ سِوَاهُ، وَلَقَدْ يَقُولُ الصُّوفِيَّةُ: إِنَّ الْعُبُودِيَّةَ لِلَّهِ تَعَالَى ثَلَاثُ مَرَاتِبَ: أُولَاهَا: أَنْ يَعْبُدُوهُ لِذَاتِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْبُدُوهُ لِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ كَصِفَةِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ.
وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَعْبُدُوهُ لِتَكْمُلَ نُفُوسُهُمْ، وَيَحُسُّوا بِفَضْلِ الطَّاعَةِ، وَهَذَا النَّصُّ يُفِيدُ أَنَّ حَمْدَ اللَّهِ تَعَالَى; لِأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَرَاتِبَ الثَّلَاثَ لَا تَبَاعُدَ بَيْنَهَا، فَمَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ لِذَاتِهِ، فَإِنَّ ذَاتَهُ تُعْرَفُ بِصِفَاتِهِ، وَمَنْ يَرَى شَرَفَهُ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ، فَهُوَ يَتَسَامَى.
وَالْقَوْلُ الْجُمْلِيُّ: أَنَّ الذِّكْرَ لِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِبَيَانِ سُلْطَانِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ وَحْدَهُ الْأُلُوهِيَّةَ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ بَعْدَ ذَلِكَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ
وَهُنَا بَعْضُ الْمَبَاحِثِ اللَّفْظِيَّةِ الَّتِي نَتَعَرَّضُ لَهَا; لِأَنَّهُ يَكُونُ تَقْرِيبًا لِمَعَانِي الْإِعْجَازِ فِي النَّصِّ:
الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ: التَّعْبِيرُ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِ "خَلَقَ"، وَفِي الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ بِ "جَعَلَ"، فَنَقُولُ: الْخُلُقُ مَعْنَاهُ الْإِنْشَاءُ الِابْتِدَائِيُّ هُنَا، وَالْجَعْلُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى تَكْوِينِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ أَوْ شَيْئَيْنِ، وَقَدْ يَتَضَمَّنُ الْخَلْقُ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِقَرِينَةٍ; وَهُنَا الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْشَأَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ إِنْشَاءً، وَجَعَلَ مِنْهَا الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ، فَمِنَ اخْتِفَاءِ الشَّمْسِ عَنِ الْأَرْضِ يَكُونُ ظَلَامُ اللَّيْلِ، وَمِنْ بُزُوغِ الشَّمْسِ عَلَى الْأَرْضِ يَكُونُ النُّورُ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِأَصْلِ التَّكْوِينِ وَالتَّقْدِيرِ مِنَ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.
الْمَبْحَثُ الثَّانِي: لِمَاذَا جَمَعَ "الظُّلُمَاتِ" وَأَفْرَدَ "النُّورَ"؟ وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ: أَنَّ النُّورَ وَاحِدٌ، مِنْ نَتَائِجِهِ الْكَشْفُ وَالظُّهُورُ، وَتَعَدُّدُ أَسْبَابِهِ لَا يُغَيِّرُ حَقِيقَتَهُ، أَمَّا الظُّلْمَةُ فَإِنَّهَا مُتَنَوِّعَةٌ بِتَنَوُّعِ أَسْبَابِهَا؛ فَهُنَاكَ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، وَهُنَاكَ ظُلْمَةُ الْمَحَابِسِ،
[ ص: 2432 ] وَهُنَاكَ ظُلْمَةُ الْقُبُورِ، وَهُنَاكَ ظُلْمَةُ الْغَمَامِ، وَهِيَ تَتَغَيَّرُ حَقَائِقُهَا بِتَغَيُّرِ أَسْبَابِهَا، ثُمَّ ثَمَّةَ إِشَارَةٌ إِلَى أَمْرٍ مَعْنَوِيٍّ، وَهِيَ أَنَّ ظَلَمَةَ الْإِدْرَاكِ تَتَعَدَّدُ حَقَائِقُهَا، فَهُنَاكَ ظُلْمَةُ الِانْحِرَافِ، وَظُلْمَةُ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ وَطَمْسِ الْقُلُوبِ، وَالنُّورُ وَاحِدٌ،
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=153وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ فَالنُّورُ فِي هَذَا وَاحِدٌ.
الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ: لِمَاذَا أُفْرِدَتِ الْأَرْضُ وَجُمِعَتِ السَّمَاوَاتُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَتْ نُصُوصٌ تَعْتَبِرُ الْأَرْضَ سَبْعًا كَالسَّمَاوَاتِ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ تُفْرَدُ وَتُجْمَعُ السَّمَاءُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=30أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ
وَإِنَّمَا تُعَدَّدُ السَّمَاوَاتُ لِعِظَمِهَا، وَلِإِحَاطَتِهَا بِالْأَرْضِ، وَلِمَا فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ الْبَارِزَةِ، وَلِتَزْيِينِهَا بِالنُّجُومِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عُصِيَ فِيهَا، وَلِأَنَّ طَبَقَاتِهَا مُتَمَايِزَةٌ يَنْفَصِلُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، وَالْأَرْضُ طَبَقَاتُهَا مُتَّصِلَةٌ.
الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ: مَا الَّذِي كَانَ الْعَطْفُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ وَلِمَاذَا عُطِفَ بِـ: "ثُمَّ"؟ أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ، وَهُوَ وَحْدُهُ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَجْعَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِسَبَبِ ضَلَالِهِمْ مَثَلًا يَعْدِلُونَهُ بِهِ، وَهُوَ أَصْنَامُهُمْ، أَوْ مَا يَزْعُمُونَ مِنْ آلِهَةٍ، وَالتَّعْبِيرُ بِـ: "ثُمَّ" لِلْبُعْدِ بَيْنَ الْحَقِيقَتَيْنِ، فَالْحَقِيقَةُ الْأُولَى الَّتِي تُوجِبُ تَوْحِيدَ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَالثَّانِيَةُ: مَا يَقَعُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ عَلَى غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا إِدْرَاكٍ، وَلَقَدْ قَرَّرَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَقِيقَةَ الثَّابِتَةَ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: