الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 223 ] التقاء الفارسين والسفينتين

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : وإذا اصطدم الراكبان على أي دابة كانتا فماتا معا فعلى عاقلة كل واحد منهما نصف دية صاحبه لأنه مات من صدمته وصدمة صاحبه كما لو جرح نفسه وجرحه صاحبه فمات وإن ماتت الدابتان ففي مال كل واحد منهما نصف قيمة دابة صاحبه .

                                                                                                                                            قال الماوردي : إذا اصطدم الفارسان فماتا وماتت دابتاهما وجب على كل واحد منهما نصف دية صاحبه ونصف قيمة دابته ، ويكون النصف الثاني هدرا ، وبه قال مالك .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : يجب على كل واحد منهما جميع دية صاحبه وجميع قيمة دابته ، ولا يكون شيء منها هدرا ، وهو قول أبي يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق استدلالا بأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن موت كل واحد منهما منسوب إلى فعل صاحبه فوجب أن يضمن جميع ديته ، كما لو جلس إنسان في طريق ضيقة فعثر به سائر فوقع عليه فماتا جميعا كان على عاقلة السائر جميع دية الجالس ، وعلى عاقلة الجالس جميع دية السائر ، ولا يكون شيء من ديتهما هدرا ، كذلك اصطدام الفارسين .

                                                                                                                                            والثاني : أن حدوث التلف إذا كان بفعله وبفعل صاحبه سقط اعتبار فعله في تعيينه وكان جميعه مضافا إلى فعل صاحبه وهو المأخوذ بجميع ديته ، كما لو تعدى رجل بحفر بئر فسقط فيها سائر فمات ضمن الحافر جميع دية السائر وإن كان الوقوع فيها بحفر الحافر ومشي السائر ، كذلك في اصطدام الفارسين .

                                                                                                                                            ودليلنا : ما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال : إذا اصطدم الفارسان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما نصف دية صاحبه ، ولم يظهر له مخالف ، فإن كان هذا منتشرا فهو إجماع ، وإن لم ينتشر فهو حجة عند أبي حنيفة وعلى قول الشافعي في القديم ، ولأن موت كل واحد منهما كان بفعل اشتركا فيه ، لأنه مات بصدمته وصدمة صاحبه فوجب أن يضمن ما اختص بفعله ولا يضمن ما اختص بفعل [ ص: 324 ] صاحبه ، وعلى هذا شواهد الأصول كلها ألا ترى لو أن رجلا جرح رجلا ثم جرح المجروح نفسه ومات كان نصف ديته هدرا ، لأنها في مقابلة جراحته لنفسه ونصفها على جارحه : لأن التلف كان بجرح اشتركا فيه ، وهكذا لو جذبا حجر منجنيق فعاد الحجر عليهما فقتلهما كان على عاقلة كل واحد منهما نصف دية صاحبه ونصفها الباقي هدرا لاشتراكهما في الفعل الذي كان به تلفهما ، وهكذا لو اصطدم رجلان معهما إناءان فانكسر الإناءان بصدمتهما ضمن كل واحد منهما نصف قيمة إناء صاحبه ، وكان نصفه الباقي هدرا ، وإذا كانت الأصول تشهد بصحة ما ذكرناه دل على صحته ، وبطلان ما عداه .

                                                                                                                                            فأما استدلالهم بالسائر إذا عثر بالجالس فماتا فإنما ضمن كل واحد منهما جميع دية صاحبه ، لأنهما لم يشتركا في فعل التلف ، لأن السائر تلف بعثرته بالجالس فضمن الجالس جميع ديته ، والجالس تلف بوقوع السائر عليه ، فضمن السائر جميع ديته وليس كذلك اصطدام الفارسين ، لاشتراكهما في فعل التلف .

                                                                                                                                            وأما استدلالهم بالوقوع في البئر فالجواب عنه أن الحافر لها ملجئ للوقوع فيها مسقط اعتبار فعل الملجأ وصار الجميع مضافا إلى فعل الملجئ ، ففارق من هذا الوجه ما ذكرنا ، كشاهدي الزور بالقتل يؤخذان به دون الحاكم لإلجائهما له إلى القتل .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية