الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ تفصيل شروط الصحيح ] وهذا هو الشرط الأول ، وبه خرج المنقطع ، والمرسل بقسميه ، والمعضل الآتي تعريفها في محالها ، والمعلق الصادر ممن لم يشترط الصحة كالبخاري ; لأن تعاليقه المجزومة المستجمعة للشروط فيمن بعد المعلق عنه لها حكم الاتصال ، وإن لم نقف عليها من طريق المعلق عنه فهو لقصورنا وتقصيرنا .

واتصاله ( بنقل عدل ) وهو من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة ، على ما سيأتي مع البسط في محله ، وهذا هو ثاني الشروط ، وبه خرج من في سنده من عرف ضعفه أو جهلت عينه أو حاله ، حسبما يجيء في بيانها ( ضابط ) أي : حازم ، ( الفؤاد ) بضم الفاء ثم واو مهموزة ثم مهملة أي : القلب ، فلا يكون مغفلا غير يقظ ولا متقن ، لئلا يروي من كتابه الذي تطرق إليه الخلل ، وهو لا يشعر ، أو من حفظه المختل فيخطئ ; إذ الضبط ضبطان : ضبط صدر ، وضبط كتاب .

فالأول : هو الذي يثبت ما سمعه ; بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء .

والثاني : هو صونه له عن تطرق الخلل إليه من حين سمع فيه إلى أن يؤدي ، وإن منع بعضهم الرواية من الكتاب .

[ ص: 29 ] وهذا - أعني الضبط - هو ثالث الشروط على ما ذهب إليه الجمهور ; حيث فرقوا بين الصدوق والثقة والضابط ، وجعلوا لكل صفة منها مرتبة دون التي بعدها ، وعليه مشى المصنف ، وقال : إنه احترز به عما في سنده راو مغفل ، كثير الخطأ في روايته ، وإن عرف بالصدق والعدالة .

ويتأيد بتفصيل شروط العدالة عن شروط الضبط في معرفة من تقبل روايته ، ولذلك تعقب المصنف الخطابي في اقتصاره على العدالة ، وانتصر شيخنا للخطابي ; حيث كاد أن يجعل الضبط من أوصافها ، لكن قال في موضع آخر : إن تفسير الثقة بمن فيه وصف زائد على العدالة وهو الضبط إنما هو اصطلاح لبعضهم .

وعلى كل حال فاشتراطه في الصحيح لا بد منه ، والمراد التام كما فهم من الإطلاق المحمول على الكامل ، وحينئذ فلا يدخل الحسن لذاته المشترط فيه مسمى الضبط خاصة هنا ، لكن يخرج إذا اعتضد وصار صحيحا لغيره . وكأنه اكتفى بذكره بعد ، وإن تضمن كون الحد غير جامع .

ثم إنه لا بد أن يكون ناقلا له ( عن مثله ) يعني : وهكذا إلى منتهاه ; سواء انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو إلى الصحابي ، أو إلى من دونه حتى يشمل الموقوف ونحوه .

[ ص: 30 ] ولكن قد يدعى أن الإتيان بـ " عن مثله " تصريح بما هو مجرد توضيح ، وأنه قد فهم مما قبله ، ولذلك حذفه شيخنا في نخبته لشدة اختصارها ( من غير ما ) أي : من غير ( شذوذ ) وغير ( علة قادحة ) ، وهذان : الرابع والخامس من الشروط ، وسيأتي تعريفهما ، وهما سلبيان بمعنى اشتراط نفيهما ، ولا يخدش في ذلك عدم ذكر الخطابي لهما ; إذ لم يخالف أحد فيه .

بل هو أيضا مقتضى توجيه ابن دقيق العيد ، قوله : ( وفيهما نظر على مقتضى نظر الفقهاء ; حيث قال : فإن كثيرا من العلل التي يعلل بها المحدثون لا تجري على أصول الفقهاء ) .

إذ ظاهره أن الخلاف إنما هو فيما يسمى علة ، فالكثير منه يختلفون فيه ، والبعض المحتمل لأن يكون الأكثر أو غيره يوافق الفقيه المحدث على التعليل به ، ولذلك احترز بقوله : ( كثيرا ) .

ومن المسائل المختلف فيها مما إذا أثبت الراوي عن شيخه شيئا فنفاه من هو أحفظ أو أكثر عددا ، أو أكثر ملازمة منه ، فإن الفقيه والأصولي يقولان : المثبت مقدم على النافي فيقبل .

والمحدثون يسمونه شاذا ; لأنهم فسروا الشذوذ المشترط نفيه هنا بمخالفة الراوي في روايته من هو أرجح منه ، عند تعسر الجمع بين الروايتين ، ووافقهم الشافعي على التفسير المذكور ، بل صرح بأن العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد ، أي : لأن تطرق السهو إليه أقرب من تطرقه إلى العدد الكثير ، وحينئذ فرد قول الجماعة بقول الواحد بعيد .

ومنها الحديث الذي يرويه العدل الضابط عن تابعي مثلا عن صحابي ، ويرويه آخر مثله ; سواء عن ذلك التابعي بعينه ، لكن عن صحابي آخر ، فإن الفقهاء أو أكثر [ ص: 31 ] المحدثين يجوزون أن يكون التابعي سمعه منهما معا ، إن لم يمنع منه مانع ، وقامت قرينة له ، كما سيأتي في ثاني قسمي المقلوب ، وفي الصحيحين الكثير من هذا .

وبعض المحدثين يعلون بهذا ، متمسكين بأن الاضطراب دليل على عدم الضبط في الجملة ، والكل متفقون على التعليل بما إذا كان أحد المتردد فيهما ضعيفا ، بل توسع بعضهم فرد بمجرد العلة ولو لم تكن قادحة .

وأما من لم يتوقف من المحدثين والفقهاء في تسمية ما يجمع الشروط الثلاثة صحيحا ، ثم إن ظهر شذوذ أو علة رده فشاذ ، وهو استرواح حيث يحكم على الحديث بالصحة قبل الإمعان في الفحص ، عن تتبع طرقه التي يعلم بها الشذوذ والعلة نفيا وإثباتا ، فضلا عن أحاديث الباب كله التي ربما احتيج إليها في ذلك .

وربما تطرق إلى التصحيح متمسكا بذلك من لا يحسن ، فالأحسن سد هذا الباب ، وإن أشعر تعليل ابن الصلاح ظهور الحكم بصحة المتن من إطلاق الإمام المعتمد صحة الإسناد بجواز الحكم قبل التفتيش ، حيث قال : ( لأن عدم العلة والقادح هو الأصل الظاهر ) ، فتصريحه بالاشتراط يدفعه ، مع أن قصر الحكم على الإسناد وإن كان أخف لا يسلم من انتقاد .

وكذا لا ينبغي الحكم بالانقطاع ، ولا بجهالة الراوي المبهم بمجرد الوقوف على طريق كذلك [ بل لا بد من الإمعان في التفتيش ; لئلا يكون متصلا ومعينا في طريق آخر ] ، فيعطل بحكمه الاستدلال به ، كما سيجيء في المرسل والمنقطع والمعضل .

على أن شيخنا مال إلى النزاع في ترك تسمية الشاذ صحيحا ، وقال : غاية ما [ ص: 32 ] فيه رجحان رواية على أخرى ، والمرجوحية لا تنافي الصحة ، وأكثر ما فيه أن يكون هناك صحيح وأصح ، فيعمل بالراجح ولا يعمل بالمرجوح ; لأجل معارضته له ، لا لكونه لم تصح طريقه .

ولا يلزم من ذلك الحكم عليه بالضعف ، وإنما غايته أن يتوقف عن العمل به ، ويتأيد بمن يقول : ( صحيح شاذ ) كما سيأتي في المعل . وهذا كما في الناسخ والمنسوخ سواء ، قال : ومن تأمل الصحيحين ، وجد فيهما أمثلة من ذلك . انتهى .

[ ويمكن توجيه تنظير ابن دقيق العيد الذي لم يفصح به بهذا ] .

وهو أيضا شبيه بالاختلاف في العام قبل وجود المخصص ، وفي الأمر قبل وجود الصارف له عن الوجوب .

وبالجملة فالشذوذ سبب للترك إما صحة أو عملا ، بخلاف العلة القادحة ; كالإرسال الخفي ( فتوذي ) بوجودها الصحة الظاهرة ، ويمتنع معها الحكم والعمل معا ( و ) إذا تم هذا فـ ( بالصحيح ) في قول أهل هذا الشأن : هذا حديث صحيح .

( وبالضعيف ) في قولهم : هذا حديث ضعيف ( قصدوا ) الصحة والضعف ( في ظاهر ) للحكم ، بمعنى أنه اتصل سنده مع سائر الأوصاف المذكورة ، أو فقد شرطا من شروط القبول لجواز الخطأ والنسيان على الثقة ، والضبط والإتقان وكذا الصدق على غيره ، كما ذهب إليه جمهور العلماء من المحدثين والفقهاء والأصوليين ، ومنهم الشافعي ، مع التعبد بالعمل به ، متى ظنناه صدقا ، [ ص: 33 ] وتجنبه في ضده .

( لا ) أنهم قصدوا ( القطع ) بصحته أو ضعفه ; إذ القطع إنما يستفاد من التواتر ، أو القرائن المحتف بها الخبر ، ولو كان آحادا كما سيأتي تحقيقه عند حكم الصحيحين .

وأما من ذهب كحسين الكرابيسي وغيره إلى أن خبر الواحد يوجب العلم الظاهر والعمل جميعا - فهو محمول على إرادة غلبة الظن أو التوسع ، لا سيما من قدم منهم الضعيف على القياس كأحمد ، وإلا فالعلم عند المحققين لا يتفاوت .

فالجار في الصحيح يتعلق بـ " قصدوا " ، و " في ظاهر " بمحذوف ، و " لا القطع " معطوف على محل " في ظاهر " أو على المحذوف ، والتقدير : قصدوا الصحة ظاهرا لا قطعا . والحاصل أن الصحة والضعف مرجعهما إلى وجود الشرائط وعدمها بالنسبة إلي غلبة الظن ، لا بالنسبة إلى الواقع في الخارج .

التالي السابق


الخدمات العلمية