الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فالتوحيد ضد الشرك فإذا قام العبد بالتوحيد الذي هو حق الله فعبده [ ص: 53 ] لا يشرك به شيئا كان موحدا .

                ومن توحيد الله وعبادته : التوكل عليه والرجاء له والخوف منه فهذا يخلص به العبد من الشرك . وإعطاء الناس حقوقهم وترك العدوان عليهم يخلص به العبد من ظلمهم ومن الشرك بهم . وبطاعة ربه واجتناب معصيته يخلص العبد من ظلم نفسه وقد قال تعالى في الحديث القدسي : { قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين } . فالنصفان يعود نفعهما إلى العبد وكما في الحديث الذي رواه الطبراني في الدعاء : { يا عبادي : إنما هي أربع واحدة لي وواحدة لك وواحدة بيني وبينك : وواحدة بينك وبين خلقي فالتي لي : تعبدني لا تشرك بي شيئا . والتي لك عملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه . والتي بيني وبينك : فمنك الدعاء وعلي الإجابة . والتي بينك وبين خلقي فأت إليهم ما تحب أن يؤتوه إليك } والله يحب النصفين . ويحب أن يعبدوه .

                وما يعطيه الله العبد من الإعانة والهداية هو من فضله وإحسانه وهو وسيلة إلى ذلك المحبوب وهو إنما يحبه لكونه طريقا إلى عبادته والعبد يطلب ما يحتاج أولا وهو محتاج إلى الإعانة على العبادة وإلى الهداية إلى الصراط المستقيم وبذلك يصل إلى العبادة . فهو يطلب ما يحتاج إليه أولا ليتوسل به إلى محبوب الرب الذي فيه سعادته . كذلك قوله : { عملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه } فإنه يحب الثواب الذي هو جزاء العمل فالعبد إنما يعمل لنفسه { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } ثم إذا طلب العبادة : فإنما يطلبها من حيث هي نافعة له محصلة لسعادته محصنة له من عذاب ربه فلا يطلب العبد قط إلا ما فيه حظ له وإن كان الرب يحب ذلك فهو يطلبه من حيث هو ملائم له فمن عبد الله لا يشرك به شيئا : أحبه وأثابه فيحصل [ ص: 54 ] للعبد ما يحبه من النعم تبعا لمحبوب الرب وهذا كالبائع والمشتري البائع يريد من المشتري أولا الثمن ومن لوازم ذلك : إرادة تسليم المبيع والمشتري يريد السلعة ومن لوازم ذلك : إرادة إعطاء الثمن .

                فالرب يحب أن يحب . ومن لوازم ذلك : أن يحب من لا تحصل العبادة إلا به والعبد يحب ما يحتاج إليه وينتفع به ومن لوازم ذلك ; محبته لعبادة الله فمن عبد الله وأحسن إلى الناس فهذا قائم بحقوق الله وحق عباد الله في إخلاص الدين له . ومن طلب من العباد العوض ثناء أو دعاء أو غير ذلك لم يكن محسنا إليهم لله . ومن خاف الله فيهم ولم يخفهم في الله كان محسنا إلى الخلق وإلى نفسه فإن خوف الله يحمله على أن يعطيهم حقهم ويكف عن ظلمهم ومن خافهم ولم يخف الله فهذا ظالم لنفسه ولهم حيث خاف غير الله ورجاه لأنه إذا خافهم دون الله احتاج أن يدفع شرهم عنه بكل وجه إما بمداهنتهم ومراءاتهم وإما بمقابلتهم بشيء أعظم من شرهم أو مثله وإذا رجاهم لم يقم فيهم بحق الله وهو إذا لم يخف الله فهو مختار للعدوان عليهم فإن طبع النفس الظلم لمن لا يظلمها فكيف بمن يظلمها ؟ فتجد هذا الضرب كثير الخوف من الخلق كثير الظلم إذا قدر ، مهينا ذليلا إذا قهر فهو يخاف الناس بحسب ما عنده من ذلك وهذا مما يوقع الفتن بين الناس .

                وكذلك إذا رجاهم فهم لا يعطونه ما يرجوه منهم فلا بد أن يبغضهم فيظلمهم إذا لم يكن خائفا من الله عز وجل وهذا موجود كثير في الناس تجدهم يخاف بعضهم بعضا ويرجو بعضهم بعضا وكل من هؤلاء يتظلم من الآخر ويطلب ظلمه فهم ظالمون بعضهم لبعض ظالمون في حق الله حيث خافوا غيره ورجوا غيره ظالمون لأنفسهم فإن هذا من الذنوب التي تعذب النفس بها وعليها وهو يجر إلى فعل المعاصي المختصة كالشرك والزنا فإن الإنسان إذا لم يخف [ ص: 55 ] من الله اتبع هواه ولا سيما إذا كان طالبا ما لم يحصل له ، فإن نفسه تبقى طالبة لما تستريح به وتدفع به الغم والحزن عنها وليس عندها من ذكر الله وعبادته ما تستريح إليه وبه ; فيستريح إلى المحرمات من فعل الفواحش وشرب المحرمات وقول الزور وذكر ماجريات النفس والهزل واللعب ومخالطة قرناء السوء وغير ذلك ولا يستغني القلب إلا بعبادة الله تعالى . فإن الإنسان خلق محتاجا إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره ونفسه مريدة دائما ولا بد لها من مراد يكون غاية مطلوبها لتسكن إليه وتطمئن به وليس ذلك إلا لله وحده ; فلا تطمئن القلوب إلا به ولا تسكن النفوس إلا إليه و { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } فكل مألوه سواه يحصل به الفساد ولا يحصل صلاح القلوب إلا بعبادة الله وحده لا شريك له .

                فإذا لم تكن القلوب مخلصة لله الدين : عبدت غيره ; من الآلهة التي يعبدها أكثر الناس مما رضوه لأنفسهم ; فأشركت بالله بعبادة غيره واستعانته ; فتعبد غيره وتستعين به لجهلها بسعادتها التي تنالها بعبادة خالقها والاستعانة به ; فبالعبادة له تستغني عن معبود آخر وبالاستعانة به تستغني عن الاستعانة بالخلق وإذا لم يكن العبد كذلك : كان مذنبا محتاجا وإنما غناه في طاعة ربه وهذا حال الإنسان ; فإنه فقير محتاج وهو مع ذلك مذنب خطاء فلا بد له من ربه ; فإنه الذي يسدي مغافره ولا بد له من الاستغفار من ذنوبه . قال تعالى : { فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك } فبالتوحيد يقوى العبد ويستغني ومن سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله وبالاستغفار يغفر له ويدفع عنه عذابه { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } فلا يزول فقر العبد وفاقته [ ص: 56 ] إلا بالتوحيد ; فإنه لا بد له منه وإذا لم يحصل له لم يزل فقيرا محتاجا معذبا في طلب ما لم يحصل له .

                والله تعالى : { لا يغفر أن يشرك به } . إذا حصل مع التوحيد الاستغفار حصل له غناه وسعادته وزال عنه ما يعذبه ولا حول ولا قوة إلا بالله . والعبد مفتقر دائما إلى التوكل على الله والاستعانة به كما هو مفتقر إلى عبادته ; فلا بد أن يشهد دائما فقره إلى الله وحاجته في أن يكون معبودا له وأن يكون معينا له ; فلا حول ولا قوة إلا بالله ولا ملجأ من الله إلا إليه . قال تعالى : { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه } أي يخوفكم بأوليائه . هذا هو الصواب الذي عليه الجمهور ; كابن عباس وغيره وأهل اللغة كالفراء وغيره .

                قال ابن الأنباري : والذي نختاره في الآية : يخوفكم أولياءه . تقول العرب أعطيت الأموال : أي أعطيت القوم الأموال ; فيحذفون المفعول الأول . قلت : وهذا لأن الشيطان يخوف الناس أولياءه تخويفا مطلقا ليس له في تخويف ناس بناس ضرورة ; فحذف الأول لأنه ليس مقصودا .

                وقال بعض المفسرين : يخوف أولياءه المنافقين والأول أظهر ; لأنها نزلت بسبب تخويفهم من الكفار في إنما نزلت فيمن خوف المؤمنين من الناس . وقد قال : { يخوف أولياءه فلا تخافوهم } الضمير عائد إلى أولياء الشيطان ; الذين قال فيهم : { فاخشوهم } قبلها والذي قال الثاني : فسرها من جهة المعنى وهو أن الشيطان إنما يخوف أولياءه ; لأن سلطانه عليهم ، فهو يدخل عليهم المخاوف دائما وإن كانوا ذوي عدد وعدد وأما المؤمنون فهم متوكلون على الله لا يخوفهم الكفار أو أنهم أرادوا المفعول الأول ; أي : يخوف [ ص: 57 ] المنافقين أولياءه وهو يخوف الكفار كما يخوف المنافقين ; ولو أريد أنه يجعل أولياءه خائفين لم يكن للضمير ما يعود عليه ; هو قوله : { فلا تخافوهم } .

                وأيضا فإنه يعد أولياءه ويمنيهم ; ولكن الكفار : يلقي الله في قلوبهم الرعب من المؤمنين . والشيطان لا يختار ذلك . قال تعالى : { لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله } وقال : { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } ولكن الذين [ قالوا ] ذلك من السلف أرادوا أن الشيطان يخوف الذين أظهروا الإسلام وهم يوالون العدو فصاروا بذلك منافقين ; وإنما يخاف من الكفار المنافقون بتخويف الشيطان لهم كما قال تعالى : { ولكنهم قوم يفرقون } وقال : { فإذا جاء الخوف } الآية فكلا القولين صحيح من حيث المعنى ; لكن لفظ أوليائه هم الذين يجعلهم الشيطان مخوفين لا خائفين كما دل عليه السياق وإذا جعلهم مخوفين فإنما يخافهم من خوفه الشيطان منهم . فدلت الآية على أن الشيطان يجعل أولياءه مخوفين ويجعل ناسا خائفين منهم .

                ودلت الآية على أن المؤمن لا يجوز له أن يخاف أولياء الشيطان ولا يخاف الناس كما قال : { فلا تخشوا الناس واخشون } فخوف الله أمر به وخوف أولياء الشيطان نهى عنه . قال تعالى : { لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني } فنهى عن خشية الظالم وأمر بخشيته وقال : { الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله } وقال : { فإياي فارهبون }

                التالي السابق


                الخدمات العلمية