الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          62 - فصل

                          وأما شراء أرض الخراج .

                          فقال أبو عبيد : حدثني أبو نعيم ، حدثنا بكير بن عامر عن الشعبي قال : اشترى عتبة بن فرقد أرضا على شاطئ الفرات ليتخذ فيها قضبا فذكر ذلك لعمر فقال ممن اشتريتها ؟ فقال من أربابها فلما اجتمع المهاجرون والأنصار عند عمر قال : هؤلاء أهلها فهل اشتريت منهم شيئا ؟ قال : لا ، قال : فارددها على من اشتريتها منه وخذ مالك .

                          [ ص: 299 ] وحدثنا أبو نعيم عن سعيد بن سنان عن عنترة قال : سمعت عليا يقول إياي وهذا السواد .

                          وقال أحمد : حدثنا وكيع عن شريك عن الشيباني عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كره شراء أرض أهل الذمة .

                          وإنما كره الصحابة ذلك ; لأنه يدخل في التزامه الخراج وهو نوع من الصغار حتى كره ابن عباس قبالتها .

                          لذلك قال أبو عبيد : حدثنا حجاج عن شعبة عن حبيب بن أبي ثابت قال : تبعنا ابن عباس فسأله رجل فقال : إني أكون بهذا السواد فأتقبل [ ص: 300 ] ولست أريد أن أزداد ، ولكني أدفع عني الضيم ، فقرأ عليه ابن عباس : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، فقال : لا تنزعوه من أعناقهم وتجعلوه في أعناقكم .

                          قال أبو عبيد : وحدثنا أبو معاوية ويزيد عن الحجاج عن القاسم بن عبد الرحمن - قال يزيد : عن أبيه - : أن ابن مسعود اشترى من دهقان أرضا على أن يكفيه جزيتها .

                          [ ص: 301 ] قال أبو عبيد وفي غير حديث حجاج عن القاسم عن عبد الله قال : من أقر بالطسق فقد أقر بالذل والصغار .

                          [ ص: 302 ] قال أبو عبيد : أراه يعني بالشراء هاهنا الاكتراء ، لأنه لا يكون مشتريا والجزية على البائع وقد خرجت الأرض من ملكه .

                          قال : وقد جاء مثله في حديث آخر : حدثني ابن بكير عن الليث بن سعد عن عبيد الله بن أبي جعفر عن القرظي قال : ليس بشراء أرض الجزية بأس .

                          يريد كراءها قال ذلك أبو الزناد .

                          فابن مسعود اكترى أرض الدهقان منه على أن يكفيه الدهقان جزيتها ، فلا يكون ملتزما للصغار وهذا قد يستدل به من يقول : الخراج على المستأجر ، وإلا لم يكن للاشتراط على المؤجر معنى ، وهو عليه بدون هذا الشرط ويجاب عنه بأنه شرط لمقتضى العقد فهذا تأكيد له وتقرير .

                          وقال قبيصة بن ذؤيب : من أخذ أرضا بجزيتها فقد باء بما باء به أهل الكتابين من الذل والصغار .

                          [ ص: 303 ] وقال مسلم بن مشكم : من عقد الجزية في عنقه فقد برئ مما عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                          وقال عبد الله بن عمرو : ألا أخبركم بالراجع على عقبيه ؟ رجل أسلم فحسن إسلامه ، وهاجر فحسنت هجرته ، وجاهد فحسن جهاده ، فلما قفل حمل أرضا بجزيتها ، فذلك الراجع على عقبيه .

                          وسئل عبد الله بن عمرو فقيل له : أحدنا يأتي النبطي فيحمل أرضه بجزيتها ، فقال : أتبدءون بالصغار وتعطون أفضل مما تأخذون .

                          وقال ميمون بن مهران : ما يسرني أن لي ما بين الرها إلى [ ص: 304 ] حران بخراج خمسة دراهم .

                          قال أبو عبيد : فقد تتابعت الآثار بكراهة شراء أرض الخراج ، وإنما كرهها الكارهون من جهتين .

                          إحداهما : أنها فيء للمسلمين .

                          والأخرى : أن الخراج صغار وكلاهما داخل في حديثي عمر اللذين ذكرناهما ؛ أحدهما قوله : " ولا يقرن أحدكم بالصغار بعد إذ نجاه الله منه " ووافقه على ذلك ابن مسعود وابن عباس وعبد الله بن عمرو وقبيصة بن ذؤيب وميمون بن مهران ومسلم بن مشكم في هذه الأحاديث التي ذكرناها .

                          ومذهبه في الفيء قوله لعتبة بن فرقد حين اشترى الأرض : " هؤلاء أهلها " - يعني المهاجرين والأنصار - ووافقه على ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقال علي لدهقان أسلم على عهده : أما أنت فلا جزية [ ص: 305 ] عليك وأما أرضك فلنا .

                          قلت : قوله : " لا جزية عليك " يريد قد سقط عنك خراج رأسك وهو الجزية بإسلامك ، وهذا يدل على أن الإسلام لا يسقط الخراج المضروب على الأرض فإن شاء المسلم أن يقيم بها أقام بها ، وإن شاء نزل عنها فسلمها إلى ذمي بالخراج ، فإذا كانت الأرض خراجية ثم أسلم أقرت في يده بالخراج ، وهو إجارة حكمها حكم سائر الإجارات .

                          والخراج وإن شارك الإجارة في شيء فبينهما فروق عديدة :

                          منها : أن الإجارة مؤقتة والخراج غير مؤقت .

                          ومنها : أنه لا يكره استئجار المسلم لأرض الفيء ويكره دخوله فيها بالخراج كما فعل ابن مسعود .

                          قال أبو عبيد : وأخبرني يحيى بن بكير عن مالك بن أنس : أن رأيه [ ص: 306 ] كان هذا ، قال : كل أرض افتتحت عنوة فهي فيء للمسلمين .

                          وأخبرني هو أو غيره عن مالك أنه كان ينكر على الليث بن سعد دخوله فيما دخل فيه من أرض مصر .

                          قال أبو عبيد : وحدثني سعيد بن عفير عن ابن لهيعة ونافع بن يزيد - وكان من خيارهم - وأظنه قال : ويحيى بن أيوب وشيوخهم أنهم كانوا ينكرون ذلك على الليث أيضا .

                          قال أبو عبيد : وإنما دخل فيها الليث لأن مصر كانت عنده صلحا [ ص: 307 ] [ وكان يحدثه عن يزيد بن أبي حبيب ] ، فلذلك استجاز الدخول فيها .

                          كذلك حدثني عبد الله بن صالح وابن أبي مريم وغيرهما .

                          وحرمها آخرون ; لأنها كانت عندهم عنوة .

                          قال أبو عبيد : وكان أبو إسحاق الفزاري يكره الدخول في بلاد الثغر ; لأنها عنوة ولم يتخذ بها زرعا حتى مات .

                          قال أبو عبيد : ومع هذا كله أنه قد سهل في الدخول في أرض الخراج أئمة يقتدى بهم ولم يشترطوا عنوة ولا صلحا منهم من الصحابة عبد الله بن مسعود ، ومن التابعين محمد بن سيرين وعمر بن عبد العزيز ، وكان ذلك رأي سفيان الثوري فيما يحكى عنه .

                          فأما حديث ابن مسعود فإن حجاجا حدثني عن شعبة عن أبي التياح [ ص: 308 ] عن رجل من طيئ حسبته قال : عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التبقر في الأهل والمال .

                          قال : ثم قال عبد الله : فكيف بمال براذان وبكذا وبكذا ؟

                          [ ص: 309 ] [ ص: 310 ] قال أبو عبيد التبقر : التوسع في المال وغيره وإنما هو مأخوذ من بقرت الشيء أي وسعته .

                          وذكر عن ابن سيرين أنه كانت له أرض من أرض الخراج ، فكان [ ص: 311 ] يعطيها بالثلث والربع .

                          وذكر عن عمر بن عبد العزيز أنه أعطى أرضها بجزيتها من أرض السواد .

                          قال أبو عبيد : وكان عمر بن عبد العزيز يتأول بالرخصة في أرض الخراج أن الجزية التي قال الله : حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، إنما هي على الرءوس لا على الأرض .

                          حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث بن سعد عن عمر بن عبد العزيز قال : إنما الجزية على الرءوس وليس على الأرض جزية .

                          قال : فالداخل في أرض الخراج ليس بداخل في هذه الآية والذي يروى عن سفيان أنه قال : إذا أقر الإمام أهل العنوة في أرضهم توارثوها [ ص: 312 ] وتبايعوها ، فهذا يبين لك أن رأيه الرخصة فيها .

                          قال : فالعلماء قد اختلفوا في أرض الخراج قديما وحديثا ، وكلهم إمام إلا أن أهل الكراهة أكثر والحجة في مذهبهم أبين .

                          وقد احتج قوم من أهل الرخصة بإقطاع عثمان من أقطع من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسواد .

                          قال : وإنما كان اختلافهم في الأرض المغلة التي يلزمها الخراج من ذوات المزارع والشجر ، فأما المساكن والدور بأرض السواد فما علمنا أحدا كره شراءها وحيازتها وسكناها ، وقد اقتسمت الكوفة خططا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أذن في ذلك ، ونزلها من أكابر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - رجال منهم سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وعمار وحذيفة وسلمان وخباب وأبو مسعود وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين ، ثم قدمها علي فيمن معه من الصحابة فأقام بها خلافته كلها ، ثم كان التابعون بعد بها فما علمنا أحدا منهم ارتاب بها ولا كان في نفسه منها شيء وكذلك سائر السواد .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية