الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          اليهود يختارون الشر

                                                          ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينـزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم

                                                          * * *

                                                          يرشد الله إلى الحق بدل الباطل لليهود ; لأنهم يعرضون ، ويطلبون السحر ، وينبذون آيات الله تعالى البينات الداعية إلى الحق ، وإلى صراط مستقيم ، وذلك من اضطراب إدراكهم وعدم إيمانهم كشأن من تحكمه الأوهام وتسيطر عليه الأهواء ، ولذا قال تعالى : ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير

                                                          [ ص: 346 ] لم يقل سبحانه آمنوا بمحمد . والضمير يعود إلى اليهود ، بل قال سبحانه ولو أنهم آمنوا وذلك لأنهم لا إيمان عندهم بشيء ، بل هم في اضطراب لا قرار في قلوبهم بشيء ، والإيمان إذعان للحقائق ، وجعلها مستقرة في القلوب مصدقة للحق فالمعنى : لو ثبت أنهم آمنوا وأذعنوا وصدقوا بالحق واتقوا غضب الله تعالى وطلبوا رضاه ، واتجهوا إلى السير في الطريق السوي لكان ذلك خيرا بدل الاعوجاج الذي اختاروه لأنفسهم ، فساروا في طريق عوج ، لو فعلوا ذلك لكان لهم ثواب ، ولذا قال تعالى في جواب الشرط المقدر من " لو " لمثوبة من عند الله خير أي لو ثبت أنهم آمنوا وأذعنوا وسكن ذلك قلوبهم ، واتقوا أي اتقوا غضب الله بعمل صالح ينفعهم وينفع الناس ، ويكونون به مصدر خير لخلطائهم من الناس - لكان لهم الثواب الدائم ، فالمثوبة هي الثواب الدائم المستمر ، وذكر سبحانه وتعالى أن ذلك خير لهم مما هم فيه من اضطراب مستمر وفساد قلب ، وقوله تعالى : خير إما عطف بيان ، وإما خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو خير .

                                                          وقد أكد الله تعالى المثوبة باللام المؤكدة الواقعة في جواب فعل لو المحذوف ، وبين سبحانه وتعالى بعد علمهم بهذه الأمور التي يكون علمها والأخذ بها خيرا لهم ، ولذا قال سبحانه : لو كانوا يعلمون وعلماء النحو يقولون في " لو " أنها حرف امتناع لامتناع أي يمنع جوابها لامتناع شرطها ، والمعنى أنه يمتنع علمهم بذلك فيمتنع إيمانهم ، فهم في ضلال مبين .

                                                          وإن اليهود دائما عشراء سوء ، فكانوا يغمزون في القول دائما بالنسبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - كان المؤمنون يتوجهون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - طالبين إرشاده وتوجيهه ودعاءه فكانوا يقولون راعنا وأصل راعنا مفاعلة من رعى يرعى ، ومعنى المفاعلة راعنا بالقول الموجه المرشد نرعك بالاستماع والإنصات ، فإنك هادينا ومرشدنا وقد تفيد معنى اتجه إلينا ، ولقد روي عن ابن عباس في تفسير كلمة راعنا أنه قال : " كان المسلمون يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - راعنا على جهة الطلب والرغبة من المراعاة أي التفت إلينا ، وكان هذا بلسان اليهود سبا أي اسمع لا سمعت فانتهزها اليهود وقالوا : كنا نسبه سرا فالآن نسبه جهرا .

                                                          [ ص: 347 ] كانوا يخاطبون بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ويضحكون فيما بينهم فسمعها سعد بن معاذ وكان يعرف لغتهم فقال لليهود : عليكم لعنة الله لئن سمعتها من رجل منكم يقولها للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأضربن عنقه ، فقالوا أولستم تقولونها فنزل قوله : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا

                                                          نهاهم الله تعالى عن قول راعنا لأن اليهود فسروها بما يدل على السب كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه ولووا بها ألسنتهم بما يدل على أن معناها رعونة من القائل والمخاطب الكريم ، ولقد صرح سبحانه وتعالى في موضع آخر بلي ألسنتهم فقال تعالت كلماته : من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا

                                                          كانوا يقولون : راعنا يقصدون الرعونة ، بمعنى عدم الاستقرار الفعلي والفكري فأمر الله المؤمنين أن يتوقوا هذه الكلمة وأن يقولوا انظرنا بمعنى اشملنا بنظرتك وإرشادك وتوجيهك ، وأمرهم مع ذلك بأن يسمعوا للرسول إرشاده وتوجيهه .

                                                          وإن ذلك يفيد أمرين :

                                                          أحدهما - إرشاد المؤمنين بأن يتخيروا العبارات التي لا تثير حولها المرتابين إلى ما يتعدى مقاصدهم ، وما يحرفونها عن مقصودها ، وأن يتخيروا جميل الألفاظ التي لا يؤذي جرسها الأسماع .

                                                          الأمر الثاني - أنه يجب الأخذ بسد ذرائع فساد الفهم ، وما يؤدي إلى الغمز في القول ، وإخراج الكلام عن معناه ، وتعدى مقصده .

                                                          بل إن بعض المشتغلين بالفقه قال : " إنها دليل على الأخذ بمبدأ سد الذرائع الذي يقوم على أن الذرائع أو الوسائل تأخذ حكم ما تؤدي إليه ، فما يؤدي إلى المطلوب يكون مطلوبا ، وما يؤدي إلى الممنوع يكون ممنوعا وإن لذلك وجها من [ ص: 348 ] القول ، فإن نهي الله تعالى عن أن يقولوا راعنا سد لفساد اليهود الذين يغمزون في القول ، ويتهكمون بهذا على المؤمنين ، وعلى مقام النبوة السامي الجليل .

                                                          ولقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى : وللكافرين عذاب أليم والمراد من الكافرين اليهود الذين لووا ألسنتهم غمزا واستهزاء ، وقد أظهر في موضع الإضمار لتسجيل الكفر عليهم ولبيان السبب في عذابهم فهم كافرون بما كان منهم ، وجحودهم للنبوة المحمدية وإنكارهم للقرآن الكريم ونبذهم له وراءهم ظهريا ، والكافر له عذاب أليم ، وأليم بمعنى مؤلم ، وتنكيره للدلالة على أنه عذاب أليم لا يدرون كنهه ، ولا حقيقته .

                                                          وإن المشركين عبدة الأوثان لم ينزل عليهم كتاب بعد إبراهيم عليه السلام ، واليهود أهل كتاب فنزل عليهم كتاب سماوي ثم حرفوه من بعده ، ونسوا حظا منه وزادوا عليه أوهاما من عندهم ، وكتموا جزءا كبيرا مما بأيديهم . إن هؤلاء المشركين واليهود جمعهم أمران : أحدهما الكفر ، والثاني بغض محمد - صلى الله عليه وسلم - ، أو بغض ما جاء به ، فإذا فرقهم العلم بكتاب سماوي ، فقد جمعهم كفر وبغض لما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - ; ولذا قال تعالى : ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينـزل عليكم من خير من ربكم

                                                          يود هنا معناها يحب ، وإن الود يجيء بمعنى محبة الشيء ، وبمعنى تمنيه ، وهي هنا بمعنى المحبة فقط ، وما هو بمعنى التمني قوله تعالى : ودوا لو تدهن فيدهنون وقوله تعالى : ودوا ما عنتم

                                                          وهنا تكون بمعنى المحبة ، أي ما يحب الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ، ونفي المحبة يومئ إلى الكراهية ، أي يكرهون أن ينزل الله تعالى عليكم أي خير من ربكم ، ومن في قوله تعالى : من خير من ربكم لاستغراق النفي ومعناها أي خير من ربكم ، وأعظم الخير من الله تعالى هو أن يكون رسولا من رب العالمين ، وربكم الذي رباكم وصنعكم على عينه .

                                                          [ ص: 349 ] وقدم سبحانه وتعالى أهل الكتاب على المشركين ، لأن الكلام كان في أهل الكتاب ; ولأنهم أشد جحودا وإعناتا ; ولأن الجحود منهم وهم أهل كتاب أشد من جحود غيرهم الذين لم يؤتوا كتابا ، فالجهل قد يكون عذرا أحيانا ، وإن لم يكن هنا عذرا . وإن سبب كراهية أن ينزل عليكم خير من ربكم يختلف عند المشركين عنه عند اليهود ، فهو عند المشركين كفر للوحدانية ، وخوف الرياسة ، والتنافس بين العشائر ، وأما عند اليهود ، فهو كراهية أن تكون الرسل في ولد إسماعيل ، وهم في طبيعتهم الحسد ، يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله .

                                                          وموضع الكراهية أن ينزل عليهم أي خير من ربهم ، وتنزيل الخير من رب الوجود هو الرسالة ، كان المشركون الذين عاندوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ينفسون على عشيرته بني هاشم ، ولقد قال عمرو بن هشام أبو الحكم الذي لقبه الإسلام بأبي جهل في سبب كفره : ( تنازعنا وبني عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وسقوا فسقينا ، حتى تجاثينا على الركب ، وصرنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي فأنى يكون ذلك ؟ والله لا نؤمن به ) .

                                                          واليهود قد علمنا أنهم كانوا يستفتحون به ، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ، فلعنة الله على الكافرين .

                                                          ولقد رد الله تعالى كراهيتهم ، وأنه سبحانه وتعالى يسير في اختيار نبيه على مقتضى حكمته وإرادته فقال تعالى : والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الجلال والإكرام ، والفاعل المختار يختص برحمته من يشاء وهي رحمة الرسالة التي ترحم الناس أجمعين ، كما قال تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ورحمة القرآن الذي جاء هدى وشفاء ورحمة للمؤمنين .

                                                          فمعنى يختص برحمته ، أي يختص بحمل رسالته وقرآنه من يشاء ، أي من يختاره بحكمته والله أعلم حيث يجعل رسالته ، وإن ذلك من فضله ; ولذلك قال تعالى : والله ذو الفضل العظيم أي صاحب الفضل العظيم الذي يلازمه سبحانه وتعالى ، فلا يكون منه إلا فضل عظيم يعم الناس أجمعين .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية