الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              المسألة الحادية عشرة

              الأسباب الممنوعة أسباب للمفاسد لا للمصالح ، كما أن الأسباب المشروعة أسباب للمصالح لا للمفاسد ، مثال ذلك : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ; فإنه أمر مشروع لأنه سبب لإقامة الدين ، وإظهار شعائر الإسلام ، وإخماد الباطل على أي وجه كان ، وليس بسبب ـ في الوضع الشرعي ـ لإتلاف مال أو نفس ، ولا نيل من عرض ، وإن أدى إلى ذلك في الطريق ، وكذلك الجهاد موضوع لإعلاء كلمة الله ، وإن أدى إلى مفسدة في المال أو النفس ، ودفع المحارب مشروع لرفع القتل والقتال وإن أدى إلى القتل والقتال ، والطلب بالزكاة مشروع لإقامة ذلك الركن من أركان الإسلام ، وإن أدى إلى القتال ، كما فعله أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ ، وأجمع عليه الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ، وإقامة الحدود ، والقصاص مشروع لمصلحة الزجر عن الفساد ، وإن أدى إلى إتلاف النفوس وإهراق الدماء ، وهو في نفسه مفسدة ، وإقرار حكم الحاكم مشروع لمصلحة فصل الخصومات ، وإن أدى إلى [ ص: 375 ] الحكم بما ليس بمشروع هذا في الأسباب المشروعة .

              وأما في الأسباب الممنوعة ; فالأنكحة الفاسدة ممنوعة ، وإن أدت إلى إلحاق الولد ، وثبوت الميراث وغير ذلك من الأحكام وهي مصالح ، والغصب ممنوع للمفسدة اللاحقة للمغصوب منه ، وإن أدى إلى مصلحة الملك عند تغير المغصوب في يد الغاصب أو غيره من وجوه الفوت .

              فالذي يجب أن يعلم أن هذه المفاسد الناشئة عن الأسباب المشروعة ، [ والمصالح الناشئة عن الأسباب الممنوعة ] ليست بناشئة عنها في الحقيقة ، وإنما هي ناشئة عن أسباب أخر مناسبة لها .

              والدليل على ذلك ظاهر ; فإنها إذا كانت مشروعة ; فإما أن تشرع للمصالح أو للمفاسد أو لهما معا أو لغير شيء من ذلك ، فلا يصح أن تشرع للمفاسد ; لأن السمع يأبى ذلك ، فقد ثبت الدليل الشرعي على أن [ تلك ] [ ص: 376 ] الشريعة إنما جيء بالأوامر فيها جلبا للمصالح ، وإن كان ذلك غير واجب في العقول فقد ثبت في السمع ، وكذلك لا يصح أن تشرع لهما معا بعين ذلك الدليل ، ولا لغير شيء لما ثبت من السمع أيضا ; فظهر أنها شرعت للمصالح .

              وهذا المعنى يستمر فيما منع ، إما أن يمنع لأن فعله مؤد إلى مفسدة أو إلى مصلحة أو إليهما أو لغير شيء ، والدليل جار إلى آخره ; فإذا لا سبب مشروع إلا وفيه مصلحة لأجلها شرع ; فإن رأيته وقد انبنى عليه مفسدة ; فاعلم أنها ليست بناشئة عن السبب المشروع .

              وأيضا ; فلا سبب ممنوع إلا وفيه مفسدة لأجلها منع ; فإن رأيته وقد انبنى عليه مصلحة فيما يظهر ، فاعلم أنها ليست بناشئة عن السبب الممنوع ، وإنما ينشأ عن كل واحد منها ما وضع له في الشرع إن كان مشروعا ، وما منع لأجله إن كان ممنوعا ، وبيان ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلا ، لم يقصد به الشارع إتلاف نفس ولا مال ، وإنما هو أمر يتبع السبب المشروع لرفع الحق ، وإخماد الباطل ، كالجهاد ليس مقصوده إتلاف النفوس ، بل إعلاء الكلمة ، لكن يتبعه في الطريق الإتلاف من جهة نصب الإنسان نفسه في محل يقتضي تنازع الفريقين ، وشهر السلاح ، وتناول القتال ، والحدود وأشباهها يتبع المصلحة فيها الإتلاف ، من جهة أنه لا يمكن إقامة المصلحة إلا بذلك ، وحكم الحاكم سبب لدفع التشاجر وفصل الخصومات بحسب الظاهر ، حتى تكون المصلحة ظاهرة ، وكون الحاكم مخطئا راجع إلى أسباب أخر ، من تقصير في النظر أو كون [ ص: 377 ] الظاهر على خلاف الباطن ، ولم يكن له على ذلك دليل ، وليس بمقصود في أمر الحاكم ، ولا ينقض الحكم إذا كان له مساغ ما بسبب أمر آخر ، وهو أن الفسخ يؤدي إلى ضد ما نصب له الحاكم من الفصل بين الخصوم ، ورفع التشاجر ; فإن الفسخ ضد الفصل .

              وأما قسم الممنوع ; فإن ثبوت تلك الأحكام إنما نشأ من الحكم بالتصحيح لذلك النكاح بعد الوقوع ، لا من جهة كونه فاسدا حسبما هو مبين في موضعه ، والبيوع الفاسدة من هذا النوع ، لأن لليد القابضة هنا حكم الضمان شرعا ، فصار القابض كالمالك للسلعة بسبب الضمان لا بسبب العقد ، فإذا فاتت عينها تعين المثل أو القيمة ، وإن بقيت على غير تغير ، ولا وجه من وجوه الفوت ، فالواجب ما يقتضيه النهي من الفساد فإذا حصل فيها تغير أو نحوه مما ليس بمفيت للعين ; تواردت أنظار المجتهدين هل يكون ذلك في حكم الفوت جملة بسبب التغير أم لا ؟ فبقي حكم المطالبة بالفسخ ، إلا أن في المطالبة بالفسخ حملا على صاحب السلعة إذا ردت عليه متغيرة مثلا ، كما [ ص: 378 ] أن فيها حملا على المشتري ، حيث أعطى ثمنا ، ولم يحصل له ما تعنى فيه من وجوه التصرفات التي حصلت في المبيع ، فكان العدل النظر فيما بين هذين ، فاعتبر في الفوت حوالة الأسواق ، والتغير الذي لم يفت العين ، وانتقال الملك ، وما أشبه ذلك من الوجوه المذكورة في كتب الفقهاء ، وحاصلها أن عدم الفسخ وتسليط المشتري على الانتفاع ليس سببه العقد المنهي عنه ، بل الطوارئ المترتبة بعده ، والغصب من هذا النحو أيضا ; فإن على اليد العادية حكم الضمان شرعا ، والضمان يستلزم تعين المثل أو القيمة في الذمة ، فاستوى في هذا المعنى مع المالك بوجه ما ، فصار له بذلك شبهة ملك فإذا حدث في المغصوب حادث تبقى معه العين على الجملة ; صار محل اجتهاد ، نظرا إلى حق صاحب المغصوب ، وإلى الغاصب ; إذ لا يجني عليه غصبه أن يحمل عليه في الغرم عقوبة له ، كما أن المغصوب منه لا يظلم بنقص حقه ، فكان في [ ص: 379 ] ذلك الاجتهاد بين هذين ، فالسبب في تملك الغاصب المغصوب ليس نفس الغصب ، بل التضمين أولا ، منضما إلى ما حدث بعد في المغصوب ، فعلى هذا النوع أو شبهه يجري النظر في هذه الأمور .

              والمقصود أن الأسباب المشروعة لا تكون أسبابا للمفاسد ، والأسباب الممنوعة لا تكون أسبابا للمصالح ; إذ لا يصح ذلك بحال .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية