الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              الآية الثامنة والأربعون :

                                                                                                                                                                                                              قوله تعالى : { : وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا }

                                                                                                                                                                                                              وهي وإن كانت منفصلة عن التي قبلها عددا فقد زعم قولهم كما قدمنا أنها بها مرتبطة . وقد فصلناها خطابا ونتكلم عليها حكما حتى يتبين الحال دون اختلال . وذلك أن الله تعالى قال : { أن تقصروا من الصلاة إن خفتم } . فإن ذلك إن كان شرطا في القصر " وكان المعنى أن تقصروا من حدودها ، فهذه الآية بيان صفة ذلك القصر من الحدود ، وإن كان كلاما مبتدأ لم يرتبط بالأول ، فهذا بيانه ، فيقول : ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم {أنه صلى صلاة الخوف مرارا عدة بهيئات مختلفة } ، فقيل في مجموعها : إنها أربع وعشرون صفة ، ثبت فيها ست عشرة صفة قد شرحناها في كتب الحديث . والذي نذكره لكم الآن ما نورده أبدا في المختصرات ، وذلك على ثماني صفات :

                                                                                                                                                                                                              الصفة الأولى : روي عن ابن عمر قال : { صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة وسجد سجدتين والطائفة الأخرى مواجهة العدو ، ثم انصرفوا فقاموا مقام أصحابهم مقبلين على العدو ، وجاء أولئك ثم صلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة ، ثم سلم ، ثم قضى هؤلاء ركعة . }

                                                                                                                                                                                                              [ ص: 619 ] الصفة الثانية : { قال جابر بن عبد الله : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ، فصفنا صفين ; صفا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم والعدو بيننا وبين القبلة ، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم فكبرنا جميعا ، ثم ركع وركعنا جميعا ، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ، ثم انحدرنا بالسجود والصف الذي يليه ، وقام الصف المؤخر في نحر العدو ، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم ، ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعا ، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ، ثم انحدرنا بالسجود والصف الذي يليه كان مؤخرا في الركعة الأولى ، وقام الصف المؤخر في نحر العدو ، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود ، فسجدوا ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعا } .

                                                                                                                                                                                                              الصفة الثالثة : عن ابن أبي خيثمة { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في الخوف ، فصفهم خلفه صفين ، فصلى بالذين يلونه ركعة ، ثم قام فلم يزل قائما حتى صلى بالذين خلفه ركعة ، ثم تقدموا وتأخر الذين قدامهم ، فصلى بهم ركعة ، ثم قعد حتى صلى الذين تخلفوا ركعة ثم سلم } .

                                                                                                                                                                                                              الصفة الرابعة : يوم ذات الرقاع { إن طائفة صلت معه وجاه العدو فصلى بالذين معه ركعة ، ثم ثبت قائما فأتموا لأنفسهم ، ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو ، وجاءت الطائفة الأخرى وصلى بهم الركعة التي بقيت ، ثم ثبت جالسا ، وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم . }

                                                                                                                                                                                                              الصفة الخامسة : قال جابر : { أقبلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع فذكر الحديث ، ثم قال : فصلى بطائفة ركعتين ، ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين ، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتين } .

                                                                                                                                                                                                              الصفة السادسة : عن ابن عمر : يتقدم الإمام وطائفة من الناس فيصلى بهم ركعة ، وتكون طائفة بينهم وبين العدو لم يصلوا فإذا صلى بالذين معه ركعة استأخروا مكان الذين لم يصلوا فيصلون ركعة ثم ينصرف الإمام وقد صلى ركعتين ، فيقوم كل واحد [ ص: 620 ] من الطائفتين فيصلون لأنفسهم ركعة بعد أن ينصرف الإمام ويكون كل واحد من الطائفتين قد صلى ركعتين .

                                                                                                                                                                                                              قال ابن عمر : قال النبي صلى الله عليه وسلم : { فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا قياما وركبانا } . قال نافع : قال ابن عمر : مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، لا أرى ذكر ذلك عن عمر إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم ; فهذه الصفات الست في الصحيح الثابت .

                                                                                                                                                                                                              الصفة السابعة : عن ابن مسعود ; قال : { صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ، فقام صف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف مستقبل العدو ، فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة ، وجاء الآخرون ; فقاموا مقامهم ، واستقبل هؤلاء للصلاة فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام هؤلاء وصلوا لأنفسهم ركعة ، ثم سلموا ، ثم ذهبوا فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو ، ورجع أولئك مقامهم ، فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا } .

                                                                                                                                                                                                              الصفة الثامنة عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه صلى صلاة الخوف بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا } ، ومن هذه الصفة الثامنة ما قال ابن عباس : فرض الله الصلاة على لسان نبيه في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة ، وقد تقدم . وهاتان الصفتان مرويتان في المصنفات خرجهما أبو داود وغيره .

                                                                                                                                                                                                              واختلف الناس في هذه الصفات وما بقي غيرها من الست عشرة صفة على ستة أقوال :

                                                                                                                                                                                                              الأول : قال أبو يوسف : هي ساقطة كلها ، لقوله عز وجل : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } فإنما أقام الصلاة خوفية بشرط إقامة النبي صلى الله عليه وسلم لها بهم . قلنا لهم : فالآن ما يصنعون ؟ فإن قال : نترك الصلاة مع الذكر لها والعلم بها وبوقتها كان ذلك احتجاجا بها واقتداء بمن فات ، وإن قال يفعلها على الحالة المعتادة فيها فلا يمكن ، فلم يبق إلا الاقتداء بقول الله تعالى : { وإذا كنت فيهم } والائتمام بالنبي صلى الله عليه وسلم . [ ص: 621 ] وقد قال في الصحيح : { صلوا كما رأيتموني أصلي } ، والله قال له : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } وهو قال لنا : { صلوا كما رأيتموني أصلي } . وقد استوفيناها في مسائل الخلاف .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : قالت طائفة : أي صلاة صلى من هذه الصلوات الصحاح المروية جاز ، وبه قال أحمد بن حنبل .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : أن الذي يعلم تقدمه ويتحقق تأخر غيره عنه ; فإن المتأخر ينسخ المتقدم ، وإنما يبقى الترجيح فيما جهل تاريخه . وقد تكلمنا في نسخ الفعل للفعل في الأصول في المحصول ، وهذا كان فيه متعلق لو لا أنا نبقى في الإشكال بعد تحديد المتقدم .

                                                                                                                                                                                                              الرابع : قال قوم : ما وافق صفة القرآن منها فهو الذي نقول به ; لأنه مقطوع به ، وما خالفها مظنون ، ولا يترك المقطوع به له ، وعلقوه بنسخ القرآن للسنة ; وهذا متعلق قوي ، لكن يمنع منه القطع على أن صلاة الخوف إنما كانت ليجمع بين التحرز من العدو وإقامة العبادة ، فكيفما أمكنت فعلت ، وصفة القرآن لم تأت لتعيين الفعل . وإنما جاءت لحكاية الحال الممكنة ، وهذا بالغ .

                                                                                                                                                                                                              الخامس : ترجيح الأخبار بكثرة الرواة لها أو مزيد عدالتهم فيها ، وهو مذهب مالك والشافعي ، فرجحنا خبر سهل وصالح ، ثم رجحنا بينهما بعد ذلك بوجوه من الترجيحات ; منها أن يكون أخف فعلا ، ومنها ما يكون أحفظ لأهبة الصلاة ، وهو : السادس : مثال ذلك إذا صلى صلاة المغرب في الخوف . قلنا : نحن وأبو حنيفة نصلي بالأولى ركعتين ; لأنه أخف في الانتظار . [ ص: 622 ] وقال الإمام الشافعي : يصلي بالأولى ركعة لأن عليا فعلها ليلة الهرير . ومنها الترجيح بالسلام بعد الإمام على ما قبله ، وذلك طول لا يكون إلا في موضعه ، وهذه نبذة كافية للباب الذي تصدينا إليه .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية