الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          كذب

                                                          كذب : الكذب : نقيض الصدق ; كذب يكذب كذبا وكذبا وكذبة وكذبة : هاتان عن اللحياني ، وكذابا وكذابا ; وأنشد اللحياني :


                                                          نادت حليمة بالوداع وآذنت أهل الصفاء وودعت بكذاب



                                                          ورجل كاذب وكذاب وتكذاب وكذوب وكذوبة وكذبة ، مثال همزة ، وكذبان وكيذبان وكيذبان ومكذبان ومكذبانة وكذبذبان وكذبذب وكذبذب ; قال جريبة بن الأشيم :


                                                          فإذا سمعت بأنني قد بعتكم     بوصال غانية فقل كذبذب



                                                          قال ابن جني : أما كذبذب خفيف ، وكذبذب ثقيل ، فهاتان بناءان لم يحكهما سيبويه . قال : ونحوه ما رويته عن بعض أصحابنا ، من قول بعضهم ذرحرح ، بفتح الراءين . والأنثى : كاذبة وكذابة وكذوب . والكذب : جمع كاذب ، مثل راكع وركع ; قال أبو دواد الرؤاسي :


                                                          متى يقل تنفع الأقوام قولته     إذا اضمحل حديث الكذب الولعه
                                                          أليس أقربهم خيرا وأبعدهم     شرا ، وأسمحهم كفا لمن منعه
                                                          لا يحسد الناس فضل الله عندهم     إذا تشوه نفوس الحسد الجشعه



                                                          الولعة : جمع والع ، مثل كاتب وكتبة . والوالع : الكاذب ، والكذب جمع كذوب مثل صبور وصبر ، ومنه قرأ بعضهم : ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب ) ، فجعله نعتا للألسنة . الفراء : يحكى عن العرب أن بني نمير ليس لهم مكذوبة . وكذب الرجل : أخبر بالكذب . وفي المثل : ليس لمكذوب رأي . ومن أمثالهم : المعاذر مكاذب . ومن أمثالهم : أن الكذوب قد يصدق ، وهو كقولهم : مع الخواطئ سهم صائب . اللحياني رجل تكذاب وتصداق أي يكذب ويصدق . النضر : يقال للناقة التي يضربها الفحل فتشول ، ثم ترجع حائلا : مكذب وكاذب ، وقد كذبت وكذبت . أبو عمرو : يقال للرجل يصاح به وهو ساكت يري أنه نائم : قد أكذب ، وهو الإكذاب . وقوله تعالى : ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا ) ; قراءة أهل المدينة ، وهي قراءة عائشة - رضي الله عنها - بالتشديد وضم الكاف . روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم أن يصدقوهم ، وظنت الرسل أن من قد آمن من قومهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله ، وكانت تقرؤه بالتشديد ، وهي قراءة نافع ، وابن كثير ، وأبي عمرو ، وابن عامر ; وقرأ عاصم وحمزة والكسائي : كذبوا ، بالتخفيف . وروي عن ابن عباس أنه قال : كذبوا ، بالتخفيف وضم الكاف . وقال : كانوا بشرا يعني الرسل يذهب إلى أن الرسل ضعفوا ; فظنوا أنهم قد أخلفوا . قال أبو منصور : إن صح هذا عن ابن عباس ، فوجهه عندي ، والله أعلم ، أن الرسل خطر في أوهامهم ما يخطر في أوهام البشر من غير أن حققوا تلك الخواطر ولا ركنوا إليها ، ولا كان ظنهم ظنا اطمأنوا إليه ، ولكنه كان خاطرا يغلبه اليقين . وقد روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : تجاوز الله عن أمتي ما حدثت به أنفسها ، ما لم ينطق به لسان أو تعمله يد ، فهذا وجه ما روي عن ابن عباس . وقد روي عنه أيضا : أنه قرأ حتى إذا استيأس الرسل من قومهم الإجابة ، وظن قومهم أن الرسل قد كذبهم الوعيد . قال أبو منصور : وهذه الرواية أسلم ، وبالظاهر أشبه ; ومما يحققها ما روي عن سعيد بن جبير أنه قال : استيأس الرسل من قومهم ، وظن قومهم أن الرسل قد كذبوا ، جاءهم نصرنا ; وسعيد أخذ التفسير عن ابن عباس . وقرأ بعضهم : وظنوا أنهم قد كذبوا أي ظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم . قال أبو منصور : وأصح الأقاويل ما روينا عن عائشة - رضي الله عنها - وبقراءتها قرأ أهل الحرمين ، وأهل البصرة ، وأهل الشام . وقوله تعالى : ليس لوقعتها كاذبة ; قال الزجاج : أي ليس يردها شيء ، كما [ ص: 38 ] تقول حملة فلان لا تكذب أي لا يرد حملته شيء . قال : وكاذبة مصدر ، كقولك : عافاه الله عافية ، وعاقبه عاقبة ، وكذلك كذب كاذبة ، وهذه أسماء وضعت مواضع المصادر كالعاقبة والعافية والباقية . وفي التنزيل العزيز : فهل ترى لهم من باقية أي بقاء . وقال الفراء : ليس لوقعتها كاذبة أي ليس لها مردود ولا رد ، فالكاذبة هاهنا ، مصدر . يقال : حمل فما كذب . وقوله تعالى : ما كذب الفؤاد ما رأى ; يقول : ما كذب فؤاد محمد ما رأى ; يقول : قد صدقه فؤاده الذي رأى . وقرئ : ما كذب الفؤاد ما رأى ، وهذا كله قول الفراء . وعن أبي الهيثم : أي لم يكذب الفؤاد رؤيته ، وما رأى بمعنى الرؤية ، كقولك : ما أنكرت ما قال زيد أي قول زيد . ويقال : كذبني فلان أي لم يصدقني فقال لي الكذب ; وأنشد للأخطل :


                                                          كذبتك عينك ، أم رأيت بواسط     غلس الظلام من الرباب خيالا ؟



                                                          معناه : أوهمتك عينك أنها رأت ، ولم تر . يقول : ما أوهمه الفؤاد أنه رأى ، ولم ير ، بل صدقه الفؤاد رؤيته . وقوله : ( ناصية كاذبة ) أي صاحبها كاذب ، فأوقع الجزء موقع الجملة . ورؤيا كذوب : كذلك ; أنشد ثعلب :


                                                          فحيت فحياها فهب فحلقت     مع النجم رؤيا في المنام كذوب



                                                          والأكذوبة : الكذب . والكاذبة : اسم للمصدر ، كالعافية . ويقال : لا مكذبة ، ولا كذبى ولا كذبان أي لا أكذبك . وكذب الرجل تكذيبا ، وكذابا : جعله كاذبا ، وقال له : كذبت ، وكذلك كذب بالأمر تكذيبا وكذابا . وفي التنزيل العزيز : وكذبوا بآياتنا كذابا . وفيه : لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا أي كذبا ، عن اللحياني : قال الفراء : خففهما علي بن أبي طالب - عليه السلام - جميعا وثقلهما عاصم ، وأهل المدينة ، وهي لغة يمانية فصيحة . يقولون : كذبت به كذابا ، وخرقت القميص خراقا . وكل فعلت فمصدره فعال ، في لغتهم ، مشددة . قال : وقال لي أعرابيا مرة على المروة يستفتيني : ألحلق أحب إليك أم القصار ؟ وأنشدني بعض بني كليب :


                                                          لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي     وعن حوج قضاؤها من شفائيا



                                                          وقال الفراء : كان الكسائي يخفف ( لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا ) لأنها مقيدة بفعل يصيرها مصدرا ، ويشدد : ( وكذبوا بآياتنا كذابا ) لأن كذبوا يقيد الكذاب . قال : والذي قال حسن ، ومعناه : لا يسمعون فيها لغوا أي باطلا ، ولا كذابا أي لا يكذب بعضهم بعضا ، غيره . ويقال للكذب : كذاب ، ومنه قوله تعالى : لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا أي كذبا ; وأنشد أبو العباس قول أبي دواد :


                                                          قلت لما نصلا من قنة :     كذب العير ، وإن كان برح



                                                          قال معناه : كذب العير أن ينجو مني أي طريق أخذ ، سانحا أو بارحا ; قال : وقال الفراء هذا إغراء أيضا . وقال اللحياني ، قال الكسائي : أهل اليمن يجعلون مصدر فعلت فعالا ، وغيرهم من العرب تفعيلا . قال الجوهري : كذابا أحد مصادر المشدد ، لأن مصدره قد يجيء على التفعيل مثل التكليم ، وعلى فعال مثل كذاب ، وعلى تفعلة مثل توصية ، وعلى مفعل مثل : ( ومزقناهم كل ممزق ) . والتكاذب مثل التصادق . وتكذبوا عليه : زعموا أنه كاذب ; قال أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه :


                                                          رسول أتاهم صادق فتكذبوا     عليه ، وقالوا : لست فينا بماكث



                                                          وتكذب فلان إذا تكلف الكذب . وأكذبه : ألفاه كاذبا ، أو قال له : كذبت . وفي التنزيل العزيز : فإنهم لا يكذبونك ، قرئت بالتخفيف والتثقيل . وقال الفراء : وقرئ لا يكذبونك ، قال : ومعنى التخفيف - والله أعلم - لا يجعلونك كذابا ، وأن ما جئت به باطل ، لأنهم لم يجربوا عليه كذبا فيكذبوه ، إنما أكذبوه أي قالوا : إن ما جئت به كذب ، لا يعرفونه من النبوة . قال : والتكذيب أن يقال : كذبت . وقال الزجاج : معنى كذبته ، قلت له : كذبت ، ومعنى أكذبته أريته أن ما أتى به كذب . قال : وتفسير قوله لا يكذبونك ، لا يقدرون أن يقولوا لك فيما أنبأت به مما في كتبهم : كذبت . قال : ووجه آخر لا يكذبونك بقلوبهم ، أي يعلمون أنك صادق ; قال : وجائز أن يكون فإنهم لا يكذبونك أي أنت عندهم صدوق ، ولكنهم جحدوا بألسنتهم ، ما تشهد قلوبهم بكذبهم فيه . وقال الفراء في قوله تعالى : فما يكذبك بعد بالدين ; يقول فما الذي يكذبك بأن الناس يدانون بأعمالهم ، كأنه قال : فمن يقدر على تكذيبنا بالثواب والعقاب ، بعدما تبين له خلقنا للإنسان على ما وصفنا لك ؟ وقيل : قوله تعالى : فما يكذبك بعد بالدين ; أي ما يجعلك مكذبا ، وأي شيء يجعلك مكذبا بالدين أي بالقيامة ؟ وفي التنزيل العزيز : وجاءوا على قميصه بدم كذب . روي في التفسير أن إخوة يوسف لما طرحوه في الجب ، أخذوا قميصه ، وذبحوا جديا ، فلطخوا القميص بدم الجدي ، فلما رأى يعقوب - عليه السلام - القميص ، قال : كذبتم لو أكله الذئب لمزق قميصه . وقال الفراء في قوله تعالى : بدم كذب ، معناه مكذوب . قال : والعرب تقول للكذب : مكذوب وللضعف : مضعوف ، وللجلد : مجلود ، وليس له معقود رأي ، يريدون عقد رأي ، فيجعلون المصادر في كثير من الكلام مفعولا . وحكي عن أبي ثروان أنه قال : إن بني نمير ليس لحدهم مكذوبة أي كذب . قال الأخفش : بدم كذب ، جعل الدم كذبا ، لأنه كذب فيه ، كما قال سبحانه : فما ربحت تجارتهم . وقال أبو العباس : هذا مصدر في معنى مفعول ، أراد بدم مكذوب . وقال الزجاج : بدم كذب أي ذي كذب ; والمعنى : دم مكذوب فيه . وقرئ بدم كدب ، بالدال المهملة ، وقد تقدم في ترجمة كدب . ابن الأنباري في قوله تعالى : فإنهم لا يكذبونك ، قال : سأل سائل كيف خبر عنهم أنهم لا يكذبون النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد كانوا يظهرون تكذيبه ويخفونه ؟ قال : فيه ثلاثة أقوال : أحدها فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم ، بل يكذبونك بألسنتهم ; والثاني قراءة نافع والكسائي . [ ص: 39 ] ورويت عن علي - عليه السلام - فإنهم لا يكذبونك ، بضم الياء ، وتسكين الكاف ، على معنى لا يكذبون الذي جئت به ، إنما يجحدون بآيات الله ويتعرضون لعقوبته . وكان الكسائي يحتج لهذه القراءة ، بأن العرب تقول : كذبت الرجل إذا نسبته إلى الكذب ; وأكذبته إذا أخبرت أن الذي يحدث به كذب ; قال ابن الأنباري : ويمكن أن يكون : فإنهم لا يكذبونك ، بمعنى لا يجدونك كذابا ، عند البحث والتدبر والتفتيش . والثالث أنهم لا يكذبونك فيما يجدونه موافقا في كتابهم ؛ لأن ذلك من أعظم الحجج عليهم . الكسائي : أكذبته إذا أخبرت أنه جاء بالكذب ، ورواه : وكذبته إذا أخبرت أنه كاذب ; وقال ثعلب : أكذبه وكذبه بمعنى ; وقد يكون أكذبه بمعنى بين كذبه ، أو حمله على الكذب ، وبمعنى وجده كاذبا . وكاذبته مكاذبة وكذابا : كذبته وكذبني ; وقد يستعمل الكذب في غير الإنسان ، قالوا : كذب البرق ، والحلم ، والظن ، والرجاء ، والطمع ; وكذبت العين : خانها حسها . وكذب الرأي : توهم الأمر بخلاف ما هو به . وكذبته نفسه : منته بغير الحق . والكذوب : النفس ، لذلك قال :


                                                          إني وإن منتني الكذوب     لعالم أن أجلي قريب



                                                          أبو زيد : الكذوب والكذوبة : من أسماء النفس . ابن الأعرابي : المكذوبة من النساء الضعيفة . والمكذوبة : المرأة الصالحة . ابن الأعرابي : تقول العرب للكذاب : فلان لا يؤالف خيلاه ، ولا يساير خيلاه كذبا ; أبو الهيثم ، أنه قال في قول لبيد :


                                                          أكذب النفس إذا حدثتها



                                                          يقول : من نفسك العيش الطويل ، لتأمل الآمال البعيدة ، فتجد في الطلب ، لأنك إذا صدقتها ، فقلت : لعلك تموتين اليوم أو غدا ، قصر أملها ، وضعف طلبها ; ثم قال :


                                                          غير أن لا تكذبنها في التقى



                                                          أي لا تسوف بالتوبة ، وتصر على المعصية . وكذبته عفاقته ، وهي استه ونحوه كثير . وكذب عنه : رد ، وأراد أمرا ، ثم كذب عنه أي أحجم . وكذب الوحشي وكذب : جرى شوطا ، ثم وقف لينظر ما وراءه . وما كذب أن فعل ذلك تكذيبا أي ما كع ولا لبث . وحمل عليه فما كذب بالتشديد ، أي ما انثنى ، وما جبن ، وما رجع ; وكذلك حمل فما هلل وحمل ثم كذب أي لم يصدق الحملة ; قال زهير :


                                                          ليث بعثر يصطاد الرجال ، إذا     ما الليث كذب عن أقرانه صدقا



                                                          وفي حديث الزبير : أنه حمل يوم اليرموك على الروم ، وقال للمسلمين : إن شددت عليهم فلا تكذبوا أي لا تجبنوا وتولوا . قال شمر : يقال للرجل إذا حمل ثم ولى ولم يمض : قد كذب عن قرنه تكذيبا ، وأنشد بيت زهير . والتكذيب في القتال : ضد الصدق فيه . يقال : صدق القتال إذا بذل فيه الجد . وكذب إذا جبن ; وحملة كاذبة ، كما قالوا في ضدها : صادقة ، وهي المصدوقة والمكذوبة في الحملة . وفي الحديث : صدق الله وكذب بطن أخيك ; استعمل الكذب هاهنا مجازا ، حيث هو ضد الصدق ، والكذب يختص بالأقوال ، فجعل بطن أخيه حيث لم ينجع فيه العسل كذبا ؛ لأن الله قال : فيه شفاء للناس . وفي حديث صلاة الوتر : كذب أبو محمد أي أخطأ ; سماه كذبا ؛ لأنه يشبهه في كونه ضد الصواب ، كما أن الكذب ضد الصدق ، وإن افترقا من حيث النية والقصد ؛ لأن الكاذب يعلم أن ما يقوله كذب ، والمخطئ لا يعلم ، وهذا الرجل ليس بمخبر ، وإنما قاله باجتهاد أداه إلى أن الوتر واجب ، والاجتهاد لا يدخله الكذب ، وإنما يدخله الخطأ ; و أبو محمد صحابي ، واسمه مسعود بن زيد ; وقد استعملت العرب الكذب في موضع الخطإ ، وأنشد بيت الأخطل :


                                                          كذبتك عينك أم رأيت بواسط



                                                          وقال ذو الرمة :


                                                          وما في سمعه كذب



                                                          وفي حديث عروة ، قيل له : إن ابن عباس يقول إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبث بمكة بضع عشرة سنة ، فقال : كذب ، أي أخطأ . ومنه قول عمران لسمرة حين قال : المغمى عليه يصلي مع كل صلاة صلاة حتى يقضيها ، فقال : كذبت ولكنه يصليهن معا ، أي أخطأت . وفي الحديث : لا يصلح الكذب إلا في ثلاث قيل : أراد به معاريض الكلام الذي هو كذب من حيث يظنه السامع ، وصدق من حيث يقول القائل ، كقوله : إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ، وكالحديث الآخر : أنه كان إذا أراد سفرا ورى بغيره . وكذب عليكم الحج ، والحج ; من رفع ، جعل كذب بمعنى وجب ، ومن نصب ، فعلى الإغراء ، ولا يصرف منه آت ، ولا مصدر ، ولا اسم فاعل ، ولا مفعول ، وله تعليل دقيق ، ومعان غامضة تجيء في الأشعار . وفي حديث عمر - رضي الله عنه - : كذب عليكم الحج ، كذب عليكم العمرة ، كذب عليكم الجهاد ، ثلاثة أسفار كذبن عليكم ، قال ابن السكيت : كأن كذبن ، هاهنا ، إغراء أي عليكم بهذه الأشياء الثلاثة . قال : وكان وجهه النصب على الإغراء ، ولكنه جاء شاذا مرفوعا ; وقيل معناه : وجب عليكم الحج ; وقيل معناه : الحث والحض . يقول : إن الحج ظن بكم حرصا عليه ، ورغبة فيه ، فكذب ظنه لقلة رغبتكم فيه . وقال الزمخشري : معنى كذب عليكم الحج على كلامين : كأنه قال كذب الحج عليك الحج ; أي ليرغبك الحج ; هو واجب عليك فأضمر الأول لدلالة الثاني عليه ومن نصب الحج ، فقد جعل عليك اسم فعل ، وفي كذب ضمير الحج ، وهي كلمة نادرة جاءت على غير القياس . وقيل : كذب عليك الحج أي وجب عليكم الحج . وهو في الأصل ، إنما هو : إن قيل لا حج ، فهو كذب ; ابن شميل : كذبك الحج أي أمكنك فحج ، وكذبك الصيد أي أمكنك فارمه ; قال : ورفع الحج بكذب معناه نصب ، لأنه يريد أن يأمر بالحج ، كما يقال أمكنك الصيد ، يريد ارمه ; قال عنترة يخاطب زوجته :


                                                          كذب العتيق ، وماء شن بارد     إن كنت سائلتي غبوقا ، فاذهبي !



                                                          [ ص: 40 ] يقول لها : عليك بأكل العتيق ، وهو التمر اليابس ، وشرب الماء البارد ولا تتعرضي لغبوق اللبن ، وهو شربه عشيا ؛ لأن اللبن خصصت به مهري الذي أنتفع به ويسلمني وإياك من أعدائي . وفي حديث عمر : شكا إليه عمرو بن معديكرب أو غيره النقرس ، فقال : كذبتك الظهائر أي عليك بالمشي فيها والظهائر جمع ظهيرة ، وهي شدة الحر . وفي رواية : كذب عليك الظواهر ، جمع ظاهرة وهي ما ظهر من الأرض وارتفع . وفي حديث له آخر : إن عمرو بن معديكرب شكا إليه المعص ، فقال : كذب عليك العسل ، يريد العسلان ، وهو مشي الذئب ، أي عليك بسرعة المشي ، والمعص ، بالعين المهملة ، التواء في عصب الرجل ، ومنه حديث علي - عليه السلام - : كذبتك الحارقة ، أي عليك بمثلها ; والحارقة : المرأة التي تغلبها شهوتها ، وقيل : الضيقة الفرج . قال أبو عبيد : قال الأصمعي معنى كذب عليكم ، معنى الإغراء ، أي عليكم به وكأن الأصل في هذا أن يكون نصبا ، ولكنه جاء عنهم بالرفع شاذا ، على غير قياس ; قال : ومما يحقق ذلك أنه مرفوع قول الشاعر :


                                                          كذبت عليك لا تزال تقوفني     كما قاف ، آثار الوسيقة قائف



                                                          فقوله : كذبت عليك إنما أغراه بنفسه ، أي عليك بي فجعل نفسه في موضع رفع ، ألا تراه قد جاء بالتاء فجعلها اسمه ؟ قال معقر بن حمار البارقي :


                                                          وذبيانية أوصت بنيها     بأن كذب القراطف والقروف



                                                          قال أبو عبيد : ولم أسمع في هذا حرفا منصوبا إلا في شيء كان أبو عبيدة يحكيه عن أعرابي نظر إلى ناقة نضو لرجل ، فقال : كذب عليك البزر والنوى ; وقال أبو سعيد الضرير في قوله :


                                                          كذبت عليك لا تزال تقوفني



                                                          أي ظننت بك أنك لا تنام عن وتري ، فكذبت عليكم ; فأذله بهذا الشعر ، وأخمل ذكره ; وقال في قوله :


                                                          بأن كذب القراطف والقروف



                                                          قال : القراطف أكسية حمر ، وهذه امرأة كان لها بنون يركبون في شارة حسنة ، وهم فقراء لا يملكون وراء ذلك شيئا ، فساء ذلك أمهم لأن رأتهم فقراء ، فقالت : كذب القراطف أي إن زينتهم هذه كاذبة ، ليس وراءها عندهم شيء . ابن السكيت : تقول للرجل إذا أمرته بشيء وأغريته : كذب عليك كذا وكذا أي عليك به ، وهي كلمة نادرة ; قال وأنشدني ابن الأعراب لخداش بن زهير :


                                                          كذبت عليكم أوعدوني وعللوا     بي الأرض والأقوام قردان موظب



                                                          أي عليكم بي وبهجائي إذا كنتم في سفر ، واقطعوا بذكري الأرض ، وأنشدوا القوم هجائي يا قردان موظب . وكذب لبن الناقة أي ذهب ، هذه عن اللحياني . وكذب البعير في سيره إذا ساء سيره ; قال الأعشى :


                                                          جمالية تغتلي بالرداف     إذا كذب الآثمات الهجيرا



                                                          ابن الأثير في الحديث : الحجامة على الريق فيها شفاء وبركة ، فمن احتجم فيوم الأحد والخميس كذباك أو يوم الاثنين والثلاثاء ; معنى كذباك ، أي عليك بهما ، يعني اليومين المذكورين . قال الزمخشري : هذه كلمة جرت مجرى المثل في كلامهم ، فلذلك لم تصرف ولزمت طريقة واحدة في كونها فعلا ماضيا معلقا بالمخاطب وحده ، وهي في معنى الأمر كقولهم في الدعاء : رحمك الله أي ليرحمك الله . قال : والمراد بالكذب الترغيب والبعث ، من قول العرب : كذبته نفسه إذا منته الأماني ، وخيلت إليه من الآمال ما لا يكاد يكون ، وذلك مما يرغب الرجل في الأمور ويبعثه على التعرض لها ; ويقولون في عكسه صدقته نفسه ، وخيلت إليه العجز والنكد في الطلب . ومن ثم قالوا للنفس : الكذوب . فمعنى قوله : كذباك أي ليكذباك ولينشطاك ويبعثاك على الفعل ; قال ابن الأثير : وقد أطنب فيه الزمخشري وأطال ، وكان هذا خلاصة قوله ; وقال ابن السكيت : كأن كذب ، هاهنا ، إغراء أي عليك بهذا الأمر ، وهي كلمة نادرة جاءت على غير القياس . يقال : كذب عليك أي وجب عليك . والكذابة : ثوب يصبغ بألوان ينقش كأنه موشي . وفي حديث المسعودي : رأيت في بيت القاسم كذابتين في السقف ; الكذابة : ثوب يصور ويلزق بسقف البيت ، سميت به ؛ لأنها توهم أنها في السقف ، وإنما هي في الثوب دونه . والكذاب : اسم لبعض رجاز العرب . والكذابان : مسيلمة الحنفي والأسود العنسي .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية