الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة

                                                      قال الشافعي رحمه الله : الخطاب في العموم والخصوص على أربعة أوجه :

                                                      أحدها : خطاب عام اللفظ والمعنى ، كقوله تعالى : { الله خالق كل شيء } قال الشافعي ( رحمه الله ) في " الرسالة " فهذا عام لا خاص . واعترض ابن داود عليه فقال : كيف عد هذه الآية في العمومات التي لم يدخلها التخصيص ، والله تعالى شيء بدليل قوله تعالى : {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله } .

                                                      ورد ابن سريج عليه ، وقال : أما علمت أن المخاطب لا يدخل تحت الخطاب ؟ وقال في كتاب " الإعذار والإنذار " لابن داود : وأما ما عرض به من قوله : { قل أي شيء أكبر شهادة } وأي ضرورة دعته إلى هذا ؟ وكيف يحتمل العموم ما أومأ إليه ؟ وقد بدأ الله بنفسه ، فأخبر بقوله : { الله خالق كل شيء } [ ص: 332 ] وهل تحتمل الأوهام في المخاطبة ما أومأ إليه ؟ ولولا أن القلوب لا تطيق الكلام ، لكان عليه فيه كلام كثير . ويقول : إن الآية تخرج عامة في مذاهب جميع الناس ، لأنه لما كان ما عرض به في الله محالا خارجا عن الوهم علم أن الخطاب إنما يخرج على ما يعقل ويتوهم دون ما لا يعقل ولا يتوهم ، فإذا لم يخرج على ما لا يتوهم لم يدخل في ذلك عموم ولا خصوص .

                                                      ثم قال بعد شيء مما ذكره في دفع ما أورده ابن داود مما يستحيل اندراجه في الصفات : قد أومأنا إلى جمل وكرهنا التفسير ، لأن الشافعي وأصحابه بعده يكرهون الخوض في هذا ، انتهى .

                                                      وقال الصيرفي في " شرح الرسالة " : اعترض ابن داود ويحيى بن أكثم على الشافعي في قوله في قول الله تعالى : { الله خالق كل شيء } إنه عام ، وجهلوا الصواب ، وذهبوا عن اللغة ، وذلك لو أن رجلا من كبار أهل بغداد قال : أطعمت أهل بغداد جميعا لم يكن داخلا فيهم ، ولم تقل له : خرجت أنت بخصوص ، وإنما العموم في المطعمين سواه لأنه هو المطعم لهم . قال : وفي الآية دليلان :

                                                      أحدهما : أنه لا خالق سواه .

                                                      وثانيهما : أن ما سواه مخلوق ، وينبغي أن يعلم أن الخطاب عام فيما سواه . قال : ولا شك أن لفظة " شيء " لا تطلق على الله ، وإن شملت الموجودات لغة واصطلاحا ، وسند المنع كون الأسماء توقيفية ، ولأن لفظة شيء مأخوذة من شاء . والشاء من المحدث الذي ليس بقديم ، والله تعالى قديم فلا يصدق فيه ذلك .

                                                      الثاني : خطاب خاص اللفظ والمعنى كقوله : { يا أيها النبي قل [ ص: 333 ] لأزواجك } الآية فهذا مختص به عليه السلام ، لأنه لا يجب على أحد التخيير .

                                                      الثالث : خطاب خاص اللفظ عام المعنى ، كقوله تعالى : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم } الآية الخطاب معه ، والمراد به الأمة ، بدليل قوله : { وقد نزل عليكم في الكتاب } ولم ينزل في الكتاب إلا هذه الآية وقوله تعالى : { لئن أشركت ليحبطن عملك } وقوله : { ولا تكن للخائنين خصيما } قال الأستاذ أبو إسحاق : ولا يصار إلى ذلك إلا بدليل غير الخطاب ، وأنكر ابن حزم في " الإحكام " وجود هذا القسم ، وقال ليس موجودا في اللغة ، وهو محجوب بما ذكرنا .

                                                      الرابع : خطاب عام اللفظ ، والمراد به الخصوص ، وهذا اختلف فيه ، والأكثرون على جوازه ، كقوله تعالى : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم } فإن المراد بالناس الأول : نعيم بن مسعود أو أربعة نفر كما قال الشافعي في " الرسالة " . قال الكرخي : وهو مجاز لا حقيقة وإذا خاطب بذلك فلا بد أن يدلنا على مراده به . وهل يجب مقارنة الدليل الخطاب ، أو يجوز تأخيره عنه ؟ فيه القولان .

                                                      وذهب بعض الأصوليين إلى إنكار هذا القسم ، لأن الموجب للخصوص بمنزلة الاستثناء المتصل بالجملة ، ولا يجوز في قوله تعالى : { فلبث فيهم [ ص: 334 ] ألف سنة إلا خمسين عاما } أن هذه الصيغة مراد بها ألف سنة كاملة .

                                                      واعلم أن جماعة أطلقوا الخلاف في هذه المسألة : منهم صاحب المحصول ، وخصه الشيخ أبو حامد ، والشيخ أبو إسحاق ، وسليم الرازي في " التقريب " ، وابن السمعاني في " القواطع " ، والقاضي عبد الوهاب ، وصاحب المعتمد في " الأحكام " وغيرهم بالخبر ولم ينقلوا الخلاف في الأمر والنهي ، بل جعلوه محل وفاق ، كالنسخ ، وهو الظاهر ، فإن المانع هنا في الخبر قياس التخصيص على النسخ ، كما قاله القاضي عبد الوهاب ، والظاهر أن المخالف يمنع تسميته عاما مخصوصا ، ويقول : إنه عام أريد به الخصوص ، وحينئذ فلا ينتهض الاستدلال عليه بما ذكروه من الآيات المخصصة ، وهو قوي . ومن هنا قال بعضهم : يشترط في التخصيص وروده في الإنشاءات لا في الأخبار ، فإنه لا يكون فيها عام مخصوص ، بل عام أريد به الخصوص .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية