الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        يحجر القاضي على المفلس بالتماس الغرماء الحجر عليه بالديون الحالة الزائدة على قدر ماله ، فهذه قيود .

                                                                                                                                                                        الأول : الالتماس ، فلا بد منه . فليس للقاضي الحجر بغير التماس ; لأن الحق لهم . فلو [ ص: 128 ] كانت الديون لمجانين أو صبيان ، أو محجور عليه بسفه ، حجر لمصلحتهم بلا التماس ، ولا يحجر لدين الغائبين ; لأنه لا يستوفي مالهم في الذمم ، إنما يحفظ أعيان أموالهم .

                                                                                                                                                                        قلت : وإذا وجد الالتماس مع باقي الشروط المجوزة للحجر ، وجب على الحاكم الحجر ، صرح به أصحابنا كالقاضي أبي الطيب ، وأصحاب " الحاوي " و " الشامل " و " البسيط " وآخرين . وإنما نبهت عليه ; لأن عبارة كثيرين من أصحابنا : " فللقاضي الحجر " ، وليس مرادهم أنه مخير فيه . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        القيد الثاني : كون الالتماس من الغرماء ، فلو التمس بعضهم ودينه قدر يجوز الحجر به ، حجر ، وإلا ، فلا ، على الأصح . وإذا حجر ، لا يختص أثره بالملتمس ، بل يعمهم كلهم .

                                                                                                                                                                        قلت : أطلق أبو الطيب وأصحاب " الحاوي " و " التتمة " و " التهذيب " : أنه إذا عجز ماله عن ديونه ، فطلب الحجر بعض الغرماء ، حجر ، ولم يعتبروا قدر دين الطالب ، وهذا قوي . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ولو لم يلتمس أحد عنهم ، والتمسه المفلس ، حجر على الأصح ; لأن له غرضا .

                                                                                                                                                                        القيد الثالث : كون الدين حالا ، فلا حجر بالمؤجل وإن لم يف المال به ; لأنه لا مطالبة في الحال . فإن كان بعضه حالا ، فإن كان قدرا يجوز الحجر له

                                                                                                                                                                        [ حجر ] وإلا ، فلا .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا حجر عليه بالفلس ، لا يحل ما عليه من الدين المؤجل على المشهور ; لأن الأجل حق مقصود له فلا يفوت . وفي قول : يحل كالموت . فعلى هذا القول ، لو لم يكن عليه إلا مؤجل هل يحجر عليه ؟ وجهان . الصحيح : لا . ولو جن وعليه مؤجل ، [ ص: 129 ] حل على المشهور .

                                                                                                                                                                        فإن قلنا بالحلول ، قسم المال بين أصحاب هذه الديون . وأصحاب الحالة من الابتداء ، كما لو مات . وإن كان في المؤجل ثمن متاع موجود عند المفلس ، فلبائعه الرجوع إلى عينه ، كما لو كان حالا في الابتداء . وفي وجه : أن فائدة الحلول ، أن لا يتعلق بذلك المتاع حق غير بائعه ، فيحفظه إلى مضي المدة . فإن وجد وفاء ، فذاك ، وإلا فحينئذ ينفسخ . وقيل : لا فسخ حينئذ أيضا . بل لو باع بمؤجل وحل الأجل ، ثم أفلس المشتري وحجر عليه ، فليس للبائع الفسخ والرجوع .

                                                                                                                                                                        والأول : أصح . وإن قلنا بعدم الحلول ، بيع ماله ، وقسم على أصحاب الحال ، ولا يدخر لأصحاب المؤجل شيء ، ولا يدام الحجر عليه بعد القسمة لأصحاب المؤجل ، كما لا يحجر به ابتداء . وهل تدخل في البيع الأمتعة المشتراة بمؤجل ؟ وجهان . أصحهما : نعم ، كسائر أمواله ، وليس لبائعها تعلق بها ; لأنه لا مطالبة في الحال على هذا . فإن لم يتفق بيعها وقسمتها حتى حل الأجل ، ففي جواز الفسخ الآن وجهان .

                                                                                                                                                                        قلت : أصحهما : الجواز ، قاله في " الوجيز " . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        والوجه الثاني : لا تباع ، فإنها كالمرهونة بحقوق بائعها ، بل توقف إلى انقضاء الأجل ، فإن انقضى والحجر باق ، ثبت حق الفسخ . وإن فك ، فكذلك ، ولا حاجة إلى إعادة الحجر على الصحيح ، بل عزلها وانتظار الأجل كبقاء الحجر بالإضافة إلى المبيع .

                                                                                                                                                                        القيد الرابع : كون الديون زائدة على أمواله . فلو كانت مساوية والرجل كسوب ينفق من كسبه ، فلا حجر . وإن ظهرت أمارات الإفلاس ، بأن لم يكن كسوبا ، وكان ينفق من ماله ، أو لم يف كسبه بنفقته ، فوجهان . أصحهما عند العراقيين : لا حجر ، واختار الإمام الحجر . ويجري الوجهان ، فيما إذا كانت [ ص: 130 ] الديون أقل ، وكانت بحيث يغلب على الظن مصيرها إلى النقص أو المساواة ، لكثرة النفقة . وهذه الصورة أولى بالمنع . وإذا حجر عليه في صورة المساواة ، فهل لمن وجد عين ماله الرجوع ؟ وجهان . أحدهما : نعم ، لإطلاق الحديث . والثاني : لا ، لتمكنه من استيفاء الثمن بكماله . وهل تدخل هذه الأعيان في حساب أمواله ، وأثمانها في حساب ديونه ؟ وجهان . أصحهما : الإدخال .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية