الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
ولما كثرت الجهمية في آخر عصر التابعين كانوا هم أول من عارض الوحي بالرأي ، ومع هذا فكانوا قليلين أذلاء مذمومين ، وأولهم شيخهم الجعد بن درهم وإنما نفق عند الناس لأنه كان معلم مروان بن محمد وشيخه ولهذا يسمى مروان الجعد ، وعلى رأسه سلب الله بني أمية الملك والخلافة ، وشتتهم في البلاد ، ومزقهم كل ممزق ببركة شيخ المعطلة النفاة .

ولما اشتهر أمره في المسلمين طلبه خالد بن عبد الله القسري وكان أميرا على العراق حتى ظفر به فخطب الناس في يوم الأضحى ، وكان آخر ما قال في خطبته : أيها الناس ، ضحوا ، فإني مضح بالجعد بن درهم ، فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليما ولم يتخذ إبراهيم خليلا ، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر ، وكان ضحيته ، ثم طفئت تلك البدعة ، والناس إذ ذاك عنق واحد أن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه ، موصوف بصفات الكمال ونعوت الجلالة ، وأنه كلم عبده ورسوله موسى تكليما ، وتجلى للجبل فجعله دكا هشيما ، إلى أن جاء أول المائة الثالثة وولي على الناس عبد الله المأمور ، وكان يحب أنواع العلوم ، وكان مجلسه عامرا بأنواع بالمتكلمين في العلوم ، فغلب عليه حب المعقولات ، فأمر بتعريب كتب يونان ، وأقدم لها المترجمين من البلاد ، فترجمت له وعبرت ، [ ص: 176 ] فاشتغل بها الناس ، والملك سوق ما ينفق فيه جلب إليه ، فغلب على مجلسه من الجهمية ممن كان أخوه الأمين قد أقصاهم وتتبعهم بالحبس والقتل ، فحشوا بدعة التجهم في أذنه وقلبه فقبلها واستحسنها ودعا الناس إليها وعاقبهم عليها ، فلم تطل مدته ، فصار الأمر بعده إلى المعتصم ، وهو الذي ضرب أحمد بن حنبل ، فقام بالدعوة بعده ، والجهمية تصوب فعله وتدعو إليه ، وتخبره أن ذلك هو تنزيه الرب عن التشبيه والتجسيم ، وهم الذين غلبوا على مجلسه وقربه ، والقضاة والولاة منهم ، فإنهم تبع لملوكهم ، ومع هذا فلم يكونوا يتجاسرون على إلغاء النصوص وتقديم العقول والآراء عليها ، فإن الإسلام كان في ظهور وقوة ، وسوق الحديث نافقة ، وأعلام السنة على ظهر الأرض ، ولكن كانوا على ذلك يحومون حوله يدندنون ، وأخذوا الناس بالرغبة والرهبة ; فمن بين أعمى مستجيب ; ومن بين مكره مفتد بنفسه منهم بإعطاء ما سألوه ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، وثبت الله أقواما جعل قلوبهم في نصر دينه أقوى من الصخر وأشد من الحديد ، فأقامهم بنصرة دينه ، وجعلهم أئمة يقتدي بهم المؤمنون لما صبروا وكانوا بآياته يوقنون ، فإنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ، قال تعالى ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) فصبروا من الجهمية على الأذى الشديد ، ولم يتركوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رغبوهم به من الوعد ، ولا لما أرعبوهم به من الوعيد ، ثم أطفأ الله برحمته تلك الفتنة وأخمد تلك الكلمة ، ونصر السنة نصرا عزيزا ، وفتح لأهلها فتحا مبينا ، . حتى صرخ بها على رءوس المنابر ، ودعي إليها في كل باد وحاضر ، وصنف في ذلك الزمان في السنة ما لا يحصيه إلا الله .

ثم انقرض ذلك العصر وأهله ، وقام بعدهم ذريتهم يدعون إلى كتاب الله وسنة رسوله على بصيرة ، إلى أن جاء ما لا قبل لأحد به ، وهم جنود إبليس حقا ، المعارضون لما جاءت به الرسل بعقولهم وآرائهم ، وهم القرامطة والباطنية والملاحدة ، ودعوهم إلى العقل المجرد ، وأن أمور الرسل تعارض العقول ، فهم القائمون بهذه الطريقة حتى القيام بالقول والفعل ، فجرى على الإسلام وأهله منهم ما جرى ، وكسروا عسكر الخليفة مرارا عديدة ، وقتلوا الحاج قتلا ذريعا ، وانتهوا إلى مكة فقتلوا بها من وصل من الحاج إليها ، وقلعوا الحجر الأسود من مكانه ، وقويت شوكتهم واستفحل أمرهم وعظمت بهم الرزية واشتدت بهم البلية .

[ ص: 177 ] وأصل طريقهم أن الذي أخبرت به الرسل قد عارضه العقل ، وإذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل ، وفي زمانهم استولى الكفار على كثير من بلاد الإسلام بالمشرق والمغرب ، وكاد الإسلام أن ينهدم ركنه ، لولا دفاع الذي ضمن حفظه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ثم خمدت دعوة هؤلاء في المشرق وظهرت في المغرب قليلا ، حتى استفحلت وتمكنت واستولى أهلها على كثير من بلاد المغرب ، ثم أخذوا يطئون البلاد حتى وصلوا إلى بلاد مصر فملكوها وبنوا بها القاهرة ، وأقاموا على هذه الدعوة مصرحين بها هم وولاتهم وقضاتهم ، وفي زمانهم صنفت رسائل إخوان الصفا والإرشادات والشفا وكتب ابن سينا ، فإنه قال : كان أبي من أهل الدعوة الحاكمية ، وعطلت في زمانهم السنة وكتبها والآثار جملة إلا في الخفية ، وشعار هذه الدعوة تقديم العقل على الوحي ، واستولوا على بلاد المغرب ومصر والشام والحجاز ، واستولوا على العراق سنة وأهل السنة فيهم كأهل الذمة بين المسلمين ، بل كان لأهل الذمة من الأمان والجاه والعز عندهم ما ليس لأهل السنة ، فكم أغمد من سيوفهم في أعناق العلماء ، وكم مات في سجونهم من ورثة الأنبياء ، حتى استنقذ الله الإسلام والمسلمين من أيديهم في أيام نور الدين وابن أخيه صلاح الدين ، فأبل الإسلام من علته ، بعدما وطن نفسه على العزاء ، وانتعش بعد طول الخمول حتى استبشر أهل الأرض والسماء ، وأبدر هلاله بعد أن دخل في المحاق ، وثابت إليه روحه بعد أن بلغت التراقي ، وقيل : من راق ، واستنقذ الله بعبده وجنوده بيت المقدس من أيدي عبدة الصليب ، وأخذ كل من أنصار الله ورسوله من نصرة دينه بنصيب ، وعلت كلمة السنة وأذن بها على رءوس الأشهاد ونادى المنادي : يا أنصار الله لا تنكلوا عن الجهاد فإنه أبلغ الزاد ليوم المعاد .

فعاش الناس في ذلك النور مدة حتى استولت الظلمة على بلاد الشرق ، فقدموا الآراء والعقول والسياسة والأذواق على الوحي ، وظهرت فيهم الفلسفة والمنطق وتوابعهما ، فبعث الله عليهم عبادا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار ، وعاثوا في القرى والأمصار ، وكاد الإسلام أن يذهب اسمه وينمحي رسمه ، وكان مثار هذه الفئة وعالمها الذي يرجع إليه وزعيمها المعول فيها عليه ، شيخ شيوخ المعارضين بين الوحي والعقل ، وإمامهم في وقته نصير الشرك والكفر ( الطوسي ) فلم يعلم في [ ص: 178 ] عصره أحد عارض بين العقل والنقل معارضة رام بها إبطال النقل بالكلية مثله ، فإنه أقام الدعوة الفلسفية ، واتخذ الإشارات عوضا عن السور والآيات ، وقال : هذه عقليات قطعية برهانية قد قابلت تلك النقليات الخطابية ; واستعرض أهل الإسلام وعلماء أهل الإيمان والقرآن والسنة على السيف ، فلم يبق منهم إلا من قد أعجزه ، قصدا لإبطال الدعوة الإسلامية ، وجعل مدارس المسلمين وأوقافهم للنجسية السحرة والمنجمين والفلاسفة والملاحدة والمنطقيين ، ورأى إبطال الأذان وتحويل الصلاة إلى القطب الشمالي ، فحال بينه وبين ذلك من تكفل بحفظ الإسلام ونصره ، وهذا كله من ثمرة المعارضين بين الوحي والعقل .

ولتكن قصة شيخ هؤلاء القديم منك على ذكر كل وقت ، فإنه أول من عارض بين العقل والنقل ، وقدم العقل ، فكان من أمره ما قص الله ، وورث الشيخ تلامذته هذه المعارضة ، فلم يزل يجري على الأنبياء وأتباعهم منها كل محنة وبلية ، وأصل كل بلية في العالم ، كما قال محمد الشهرستاني : من معارضة النص بالرأي وتقديم الهوى على الشرع ، والناس إلى اليوم في شرور هذه المعارضة ، ثم ظهر مع هذا الشيخ المتأخر المعارض أشياء لم تكن تعرف قبله : حسيات العميدي ، وحقائق ابن عربي ، وتشكيكات الرازي ، وقام سوق الفلسفة والمنطق وعلوم أعداء الرسل .

التالي السابق


الخدمات العلمية